عرف المصري القديم الفرحة وكيف يربطها بالحياة المعيشية وكيف يقضي علي الروتينية الحياتية ليخرج منها مجددا لنشاطه رابطا بين الفرح والمسرة والعقيدة والإيمان, وسمحت العناية الإلهية أن يكون الإنسان المصري القديم متدينا بطبيعة الحال. ومن خلال الفطرة الداخلية ذات الصبغة الدينية استغل الرمز في احتفالاته إلي أن يأتي المرموز إليه من خلال عادت وتقاليد وممارسات طقسية وشعبية سواء كانت رسمية مرتبطة بالملك أو شخصية يحتفل بها الأشخاص أو شعبية يحتفل بها كل الشعب في الأماكن العامة ومن هنا نستطيع أن نقول إن مصر هي أم الأعياد فكانت تحتفل أحيانا بالعيد الواحد لمدة تزيد علي الشهر وهذا ما رصده لنا التاريخ عبر معبد الكرنك في منظر ليس له مثيل وهو سجود الملك رمسيس أمام الإله آمون والإله آمون يسر بذلك ويعطي الملك ما يدلل به علي العيد وكأنه يهدي له كل الأعياد لسنين طويلة… وهناك علي جدران المعابد القديمة الكثير والكثير من الرموز التي تؤكد للعالم الآن أن العيد أي ما اعتاد الإنسان أن يحتفل به هو من صنع الإنسان المصري القديم ومن هذه الأعياد الوطنية كان عيد شم النسيم.
شم النسيم اسم قبطي قديم (مصري) معناه الدقيق (بستان الزروع) فكلمة (شوم) تعني بستان و(نسيم) معناها الزروع وتدرجت إلينا إلي أن أصبح مفهومها أن يخرج الناس في هذا اليوم إلي بستان الزروع ليحتفلوا ببداية فصل الربيع الذي فيه تتفتح الزهور ويخرج رحيقها عبر الهواء النقي ويشمه الناس جميعا بفرح الروح الوطنية والقومية بروح الشعب الواحد لا لفئة دون أخري فلم يكن عيدا للربيع فقط إنما كان مجموعة من الاحتفالات كانت تستمر حتي موسم الحصاد أي بداية فصل الصيف فكان عيد شم النسيم يرمز إلي البعث وتجديد الحياة فهو يربط بين فصلين فصل الإنبات برت وفصل بدء الحصاد شمو إلي يشير إلي البستان الناضج بزهوره المتفتحة ففي هذا العيد كانت مزروعات القمح تتحول من اللون الأخضر إلي الأصفر وكان يطلق في بعض الأحيان علي أعواد النبات والقمح كلمة سيم وعلي نضجها شم أن نسيم وهذا ليس بعيدا عن بستان الزروع المعني المتداول وهو الآن يشير إلي حدائق الزهور والنباتات التي تتمتع بالروائح الطيبة والجميلة والمحبوبة للإنسان.
عيد شم النسيم في التاريخ
كانت أعياد أجدادنا الفراعنة في القديم ترتبط جميعها بالظواهر الفلكية كالنجوم والكواكب وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة والإنسان وكانت تنقسم السنة عند المصري القديم إلي ثلاثة فصول وتدرجت بعد ذلك إلي أربعة فصول منها فصل خاص بالربيع وفيه كان يحتفل بعيد الربيع المعروف بعيد شم النسيم وتحدد هذا اليوم بالانقلاب الربيعي وهو اليوم الذي فيه تتساوي الظلمة مع النور أي يتساوي الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل ويقع هذا اليوم عادة في الخامس والعشرين من شهر برمهات القبطي والتابع الآن لسنة الشهداء وكان يعتقد قديما أن هذا اليوم هو بدء الزمان كما يقول عنه البعض إنه أول الخليقة وأطلقوا عليه عيد شموش أي بعث الحياة كان هذا العيد معروفا في عهد ما قبل الأسرات في هليوبوليس مدينة أون ولكن يرجع البدء في الاحتفال به رسميا إلي عام 2700ق.م في أواخر الأسرة الثالثة وانتقل الاحتفال بهذا العيد المصري القديم إلي كثير من الشعوب التي جاءت إلي مصر وجعلوا هذا العيد هو أول السنة عندهم كما نقلوا معهم عادات الأكل والطقوس المترتبة علي هذا العيد ومظاهره التي تبعث في النفس الكثير من التساؤلات مثل أكل الخس البلدي الذي أطلق عليه كلمة (عبو) وهو كان رمزا للخصوبة عندهم حيث كان يخرج منه مادة سائلة بيضاء توحي إليهم باستمرارية الحياة وتجديد الخصوبة كما كان أكل البصل الأخضر الذي كان يطلق عليه اسم (حجو) عادة يهتم بها المصري القديم اعتقادا منه أنها تبعد الأرواح الشريرة وتجعلهم يذرفون الدموع علي موتاهم والشوق إلي الرجوع إليهم في العالم الآخر وكان يعتقد المصري القديم في أن السمك المملح يربط بينه وبين جسد المعبود أوزوريس واعتبر تحنيط الموتي باستخدام الملح وأكل السمك المملح هو توحيد مع الآلهة تعطيه الإيحاء باستمرارية الحياة وإعادة البعث في منظومة جميلة تعزف بها حياة المصري القديم أثناء الاحتفال بعيد شم النسيم كان يتناول الملانة وهي الحمص الأخضر الذي كان يطلق عليه كلمة (حربيك) التي تعني رأس الصقر إيمانا بالصقر حورس الذي أتي من إيزيس بعد موت أوزوريس أبيه فالحمص كان عندهم رمزا للحياة الجديدة وإعادة الميلاد للخليقة… وعلي أوتار قيثارة البعث والخلود والحياة الجديدة عزف الإنسان المصري القديم من أجمل وتر في طقس المأكولات وهو البيض الذي يرمز إلي إله الشمس وهو يخرج من بيضة معلنا بدء الخليقة وهو رمز للحياة وخروجها من كل شئ صلب كخروج الفرخ حيا من البيضة وخروج النبت من البذور وكأن كل هذه المأكولات ومدلولاتها عند الإنسان المصري القديم كانت وصلت إليه بالفطرة وهي تعلن عن رموز مستقبلية لقيامة السيد المسيح هذا الذي سمح بنعمته أن يكون عيد شم النسيم تاليا ليوم الاحتفال بقيامته منذ القرن الرابع الميلادي وبعد مجمع نيقية الذي حدد لنا عيد القيامة وكيفية الاحتفال به فكان يوم شم النسيم سابقا يأتي في الصوم الكبير ولأن الصوم الكبير لا يأكل فيه المسيحيون تلك المأكولات التي ذكرناها سابقا لذلك اتفق المسيحيون المصريون في القرن الرابع بأن يكون شم النسيم تاليا ليوم القيامة خاصة وأن مأكولاته لها رمز عقائدي لعيد القيامة فالسمك أو الفسيخ المملح يشير إلي موت المخلص وقيامته بعد دخوله القبر كما أن السمكة في شكلها ترمز إلي المسيحية وفي معني اسمها اليوناني إلي يسوع المسيح بن الله المخلص وهكذا البصل الأخضر والحمص والخس والبيضة كل هذه تشير إلي القيامة والحياة الجديدة فمرحبا بشم النسيم الذي من طقوسه أن يحتفل به في الصباح الباكر وفي البساتين كما قام المسيح باكرا في أول الأسبوع وظهر لمريم في البستان وظنت أنه البستاني… أكيد هو عيد مصري يشعر فيه الإنسان المصري بالانتماء إلي مصر أم الدنيا فيحترم أرضها ونيلها وكل من علي أرضها فكلنا إخوة وكلنا أبناء مصر التاريخ والأعياد.
كتاب: الأعياد الفرعونية القديمة – قصة الكنيسة القبطية – شم النسيم مقال للقمص بيشوي كامل – مواقع مختلفة علي الإنترنت.
[email protected]