مشاعر وعقيدة وتاريخ
يحتفل الإنسان كثيرا بمواسم وأعياد تختلف في معانيها وظروفها وأماكنها وتختلف المشاعر معها من حيث وطنيتها وروحانيتها ولكن تتوحد عندما يكون الاحتفال بحقيقة لاتحتاج إلي براهين ودلائل. وعندما نحتفل بعيد للأم إنما نحتفل بكيان حي أضفي علي البشرية روح الحب والعطاء وهذا لايكفيه الاحتفال بيوم وإنما الإنسان مدينا بحياته أمام الأمومة وعواطفها ومشاعرها المرهفة والحساسة,فالوطن أم والبلد أم والعائلة أم والكنيسة أم ولكني أري أن الأم التي حملتني في داخلها تسعة أشهر بدون تذمر أو جفاء إنما هي الأم التي تستحق عيدا مميزا يظهر فيه الإنسان مشاعره نحو من سهرت عليه الليالي والتي سمحت العناية الإلهية أن تستمد معني اسمها من الحياة كما سطر لنا الوحي الإلهي قائلاودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حيتك3:20وفي البحث عن كلمة حواء في اللغة العبرية وجد إنها تعني كل حي أو حياة وأود أن أضيف أن كلمة أم ومشتقاتها وردت في الكتاب المقدس بعهديه آلاف المرات حاملة في رحيقها رائحة الحب والعطاء المتدفق بغزارة التضحية التي لايمكن للإنسان أن يعوضها عنها بأي صورة من الصور كنا نراها في أعظم أم وهي السيدة العذراء مريم أم المسيح وكما صورها تاريخ الكنيسة في الأم دولاجي بأسنا والقديسة رفقة بسنباط ويحضرني الآن عزيزي القاريء حوار قد دار مع أحد الآباء الشيوخ في ذات يوم قائلا لي عندما قابلني عائدا من سفري حاملا حقيبتي: كم دفعت لمن حمل عنك حقيبتك في المسافة من باب القطار حتي السيارة التي أتيت بها إلي هنا؟وكم كلفتك السيارة التي حملتك إلي هنا؟ولأني كنت في بلد بعيد قلت له كثيرا جدا من المال دفعت…فنظر إلي وقال ونحن اليوم نحتفل بعيد الأم فيا تري كم تعطي لمن حملتك في بطنها تسعة أشهر وبين ذراعيها سنين طفولتك وإلي الآن تحمل همك وتحزن لحزنك وتفرح لفرحك وتمرض لمرضك فحسبتها قليلا وقلت بروح المديون ونبرات الضعيف: أدفع حياتي ولا تكفي فقال لي بحكمة الشيوخ لا إنما يكفيها قلب ممتلئ حبا ومشاعر صادقة وعيونا ثاقبة وأكتافا تحملها فخرا وأعتزازا فهي أمك.
وأكيد من هذا المنطلق بالفطرة عرف الإنسان من هي الأم ففكر في تكريمها ومضي سنين طويلة ينسج من خياله أفضالها علي الكون والبشرية فتارة يراها في النجوم التي عرفها والأقمار التي تنير له الليل فقدسها وأكرمها وكان يحتفي بها في وقت معين لكي يقول إنها صاحبة فضل في عبادته وفي حياته ومن هنا كانت نشأة يوم يحتفل الإنسان فيه بمن هي مصدر حياته وهادية طريقه في زمان غربته وأستطيع أن أقول إن الإنسان المصري القديم كان أول شعوب العالم مدركا من هي الأم وماهي الأمومة,ووضع يوما لتكريمها وفي عهد الكنيسة الأول أي في القرون الأولي للمسيحية وبعد أن نظمت الكنيسة الأصوام والصلوات وطقوس أسرارها المقدسة وعرف أولادها أحد التناصير أي أحد المعمودية المقدسة وهو الآنالأحد السادس من الصوم الكبيرعلمت أولادها أنهم مديونون للكنيسة لأنها هي الأم التي ولدتهم من معموديتها فكان الأولاد يأتون في يوم أحد التناصير الذي يقع في الصوم الكبير ويقدمون الهدايا للكنيسة لأنها الأم التي ولدتهم الولادة الثانية من الماء والروح كما ورد في الكتاب المقدسقال له نيقوديموس كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟ أجاب يسوع الحق الحق أقول لك أن كان أحد لايولد من الماء والروح لايقدر أن يدخل ملكوت الله يو3:4-5 وبهذا المفهوم الكتابي كان يحتفل بعيد الأم كنسيا ومن خلال هذا الاحتفال شرحت الكنيسة لأولادها قيمة الأم الروحية وأيضا الجسدية وكيفية احترامها عملا بالوصية الإلهيةأكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك علي الأرض التي يعطيك الرب إلهكخر20:12 وأضاف الكتاب المقدس مؤكدا يقولأكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك ولكي يكون لك خير علي الأرض التي يعطيك الرب إلهك تث5:16 واستمر هذا الاحتفال سنين طويلة وكان يطلق علي هذا اليوم من الصوم الكبير أحد الأمهات Mother Sunday وكان لهذا اليوم الاحتفالي مكانة خاصة عند كل شعوب العالم المسيحية من بينهم بريطانيا,ولكن توقف هذا الاحتفال في عام 1872م للظروف الاجتماعية التي مرت بها شعوب العالم ولكن ظلت الكنيسة القبطية تحتفل إلي الآن بأحد التناصيرالمعمودية-أحد الأمهاتلأنه دخل في شريان العقيدة مرتكزا علي الكتاب المقدس وسطور التاريخ والمشاعر.
عيد الأم عند شعوب العالم
الجدير بالذكر أن أهل فريجيا بآسيا الصغري كانوا يعتقدون أن معبودتهم سيبيل Cybele هي أم لكل المعبودات عندهم وكانوا في كل عام يقدمون لها العطايا ويكرمونها وبهذا الفكر انطلق اليونانيون وفي ظل احتفالات الربيع كانوا يحتفلون بيوم خاص بالمعبودة رهايا Rhea كأم للمعبودات اليونانية وجاء بعدهم الرومان وكانوا يقدسون المعبودة الأم العظيمة التي كانت تدعي ماجنا ماتر Magna Mater والتي كان لها معبد خاص يحتفلون فيه بيوم الأم العظيمة في 15 مارس من كل عام ويستمر ثلاثة أيام كمهرجان كبير تقدم فيه الهدايا,كان يطلق عليه مهرجان هيلاريا وبعد فترة انقطاع ليست بقليلة عاد الاحتفال بعيد الأم علي يد الكاتبة جوليا ورد هاوي ودعمته معهاماري تاويلز ساسينبتشجيع طلابها علي إعداد برامج احتفال لعيد الأم تقدم فيها الأعمال الفنية المناسبة والهدايا اعترافا بفضل الأم.
وأول احتفال رسمي بعيد الأم في أمريكا كان في ولاية فيرجينيا بعدما أمر بالاحتفال به في يوم 12 مايو عام 1907م كان نتيجة مجهود كبير بذلته امرأة تدعيأنا جارفيسالمولودة عام 1864م وعاشت في جرافتون graftin غربي ولاية فيرجينيا وكانت فكرته انتزاع الكراهية والشر من بين البشر والعودة إلي الحب والسلام بعد الصراعات والحروب التي اجتاحت البلاد زمنا طويلا وثبت الاحتفال بيوم الأم في الأحد الثاني من مايو في كل عام حتي انتشر الاحتفال علي مستوي كل الولايات في عام 1909م وفي عهد الرئيس ويلسون وفي 9 مايو عام 1914م تم إعلان الاحتفال بعيد الأم في الأحد الثاني من مايو كل عام احتفالا رسميا وصل بعد ذلك عدد الدول التي تحتفل به إلي ما يزيد علي الأربعين دولة عربية وغربية حتي عام 1948م.
وأصبح يوم الأحد الثاني من شهر مايو كل عام عيدا للأم تحتفل به أمريكا واليابان وانتشر مفهومه فاحتفلت النرويج به في الأحد الثاني من فبراير والأرجنتين في الأحد الثاني من أكتوبر وأما جنوب أفريقيا فتحتفل به في الأحد الأول من شهر مارس,وفي بلاد البرتغال وإسبانيا يحتفل بعيد الأم في الثامن من شهر ديسمبر كل عام وهو مرتبط بالكنيسة عندهم لأنه تكريم للسيدة العذراء وكل الأمهات,وفرنسا تنظر إلي هذا اليوم أنه عيد ميلاد للأسرة كلها مع تمييز بسيط للأم وتقديم هدية رمزية لها ورتبت له الأحد الأخير من شهر مارس,وكان لهذا الاحتفال في يوغسلافيا مذاق خاص إذ أنه يطلق عليه يوم الأم والطفل معا ويحتفل به قبل الكريسماس بثلاثة أيام أي في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر في كل عام,وفي السويد يحتفل به في الأحد الأخير من مايو ويعتبر هذا اليوم إجازة العائلة وهو أكبر احتفال لإرسال المعايدات بصورها المختلفة لإرساء القيم الأسرية التي ترمز لهذا اليوم الذي أصبح يوما عالميا تحتفل به كل أمة بصورة وطريقة تناسبها وميعاد يناسبها وظروفها.
عيد الأم في مصر والعالم العربي
عادت فكرة عيد الأم بعد أن كانت قاصرة علي الاحتفال به من خلال العقيدة المسيحية بالكنائس إلي الشمولية والعامة بعد أن تبناها الأخوان مصطفي أمين وعلي أمين في الكتابة عنها في عمود فكرة الذي كان واحدا من أعمدة جريدة الأخبار وشارك في الرأي عدد كبير من قراء الجريدة واجتمع الرأي علي أن يكون يوم 21 مارس من كل عام هو الاحتفال بعيد الأم وكما أن هذا اليوم يحتفل به كعيد للربيع فهو عيد لتجديد المشاعر الإنسانية نحو من أعطت الكثير للكون ولاسيما الطبيعة البشرية فالأم تكرمها جميع الأديان وعلي كل من يؤمن بالله الواحد وتعاليمه يجب أن يكرم الأم ويحترمها وفي يوم 21 مارس عام 1956م اجتمعت قلوب شعب مصر لتحتفل بيوم الأم في العصر الحديث متحدة بمشاعر الحب واستمر إلي يومنا هذا الاحتفال به في يوم 21 مارس من كل عام احتفالا يجمع الأسرة المصرية والعربية في كل البلاد.
فهنيئا لك يا أمي بيوم عيدك الذي يهتز فيه الوجدان وتتفتح فيه المشاعر وترقص أوتار الحياة طربا لأجمل نغم عرفته البشرية بعد الله وهو الأم فياليتنا يا أمي نوفيك حقك في أسرنا ومعابدنا ووطنا حتي بدعواتك نتخطي مصاعب الحياة وتتحد القلوب علي الخير وعمار يا مصر يا صاحبة الأعياد ويا أم الدنيا يامن رفعت شعار كرامة الأم فوق الرؤس وعرف العالم منك كيفية الاحتفال بالأم نبع الحنان.
المصادر:-الكتاب المقدس-سنكسار الكنيسة القبطية-تاريخ الأقباط لزكي شنودة-كتاب الأعياد في مصر للهيئة المصرية للكتاب ومواقع متعددة علي الإنترنت.
[email protected]