من عادة السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الذي أعلن عزوفه عن ترشيح نفسه في الانتخابات المقبلة الابتعاد كليا عن أسلوب المناورة. من يقول إن ##أبو مازن## يناور, لا يعرف ##أبو مازن## ولا يعرف خصوصا أنه رجل يعرف ماذا يريد, بغض النظر عن وجود أخطاء كثيرة لديه, بعضها يعود الي عدم إحاطة نفسه بكفاءات. جل من لا يخطئ, ولكن عندما يتعلق الأمر باتخاذ موقف ما, لا يعود الأمر متعلقا سوي بما يؤمن به الرجل وما يعتقد أنه صواب, حتي لو لم يكن هذا الموقف من النوع الذي ستصفق له الجماهير بحماسة ليست بعدها حماسة!
يرفض رئيس السلطة الوطنية خوض الانتخابات المقبلة المقررة في الرابع والعشرين من يناير 2010 من منطلق أن المطروح حاليا أبعد بكثير من المنصب. المطروح مستقبل القضية الفلسطينية وليس مستقبل ##أبو مازن##. المطروح مستقبل البرنامج السياسي الفلسطيني الذي كان يحظي الي ما قبل فترة قصيرة بدعم من المجتمع الدولي. تبين لـ##أبو مازن## أنه بكل بساطة أن لا مجال للتقدم في تطبيق البرنامج لأسباب عدة. في طليعة الأسباب التذبذب في الموقف الأمريكي. هناك بكل وضوح فتور في العلاقة بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية. ظهر هذا الفتور في مناسبات عدة لا مجال لإعادة تكرارها وذلك عندما تحدث مسئولون كبار في الإدارة عن ##الاحتلال## الإسرائيلي للضفة الغربية وعن ضرورة العودة الي حدود 1967, مع بعض التعديلات طبعا. تبدو هذه التعديلات ضرورية في ضوء حاجة الفلسطينيين الي ممر يربط بين الضفة الغربية وغزة.
ولكن, يبدو أن الفتور بين الأمريكي والإسرائيلي ليس كافيا كي تعلن الإدارة في واشنطن أن الاستيطان في الضفة الغربية مواز للاحتلال وأن لا مفر من تأكيد أن خطوط 1967 تمثل مرجعية المفاوضات في حال كان لا بد من معاودتها. حاولت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التلاعب علي الكلام خلال جولتها العربية الأخيرة مشيرة غير مرة, في مراكش والقاهرة إلي أن لا تغيير في الموقف الأمريكي من الاستيطان. ولكن كيف تستطيع هيلاري القول إن هذا التغيير لم يحصل في وقت تدعو فيه ##أبو مازن## إلي العودة إلي المفاوضات من دون شروط مسبقة.
في استطاعة الفلسطينيين العودة الي المفاوضات من دون شروط مسبقة. ولكن من حقهم في الوقت ذاته التساؤل عن مرجعية أي مفاوضات مطلوب منهم المشاركة فيها علي أي مستوي كان. تلك هي المشكلة التي واجهها رئيس السلطة الوطنية الذي يفضل الوضوح في المواقف علي أي شيء آخر. إنه يعرف علي سبيل المثال وليس الحصر ما هي مقومات التسوية. أكثر من ذلك إنه يعرف أن حق العودة للفلسطيني, أينما وجد, يتمثل في حق العودة إلي الدولة الفلسطينية, علما أن في الإمكان السماح بعودة عدد محدود من الفلسطينيين إلي ما يسمي أراضي 1948, في إطار لم شمل العائلات أو ما شابه ذلك. يعرف ##أبو مازن## أكثر ما يعرف أن الذين ينادون بحق العودة من دون العمل من أجل إقامة دولة فلسطينية لا يريدون حلا. كل ما يريده هؤلاء هو المتاجرة بالشعب الفلسطيني لا أكثر ولا أقل.
تكمن مشكلة ##أبو مازن## في أنه يفهم جيدا موازين القوي اقليميا ودوليا. موازين القوي اختلت لمصلحة إسرائيل التي لا تريد العودة الي طاولة المفاوضات إلا من أجل التفاوض في شأن قيام دولة فلسطينية حدودها, حدود المستوطنات الإسرائيلية. كان في استطاعة رئيس السلطة الوطنية الرهان علي أن الأمريكيين سيطرحون في المفاوضات أفكارا خاصة بهم. ولكن من الواضح أن مثل هذا الرهان بمثابة مجازفة كبري. والأهم من ذلك, لم يكن هناك تأييد داخل ##فتح## أو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لمغامرة من هذا القبيل.
ما العمل الآن؟ الخوف كل الخوف من أن لا يعود مكان سوي للتطرف والمتطرفين في المنطقة. هناك دعوة أطلقتها ##حماس## من أجل تجميد العملية السلمية. لا شك أن بنيامين نتنياهو يطرب لسماع مثل هذا الكلام الذي يجسد طموحاته. يعتقد نتنياهو أن الوقت يعمل لمصلحة مشروعه الهادف إلي تحقيق الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية من جهة وتكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية من جهة أخري. أما ##حماس##, فإن همها محصور في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني, في انتظار اليوم الذي ستتمكن فيه من تحرير فلسطين من النهر الي البحر أو من البحر الي النهر, لا فارق.
عندما تكتفي الإدارة الأمريكية, أي إدارة أمريكية بالتفرج علي ما يدور في الشرق الأوسط, تاركة المبادرة للمتطرفين من كل حدب وصوب وللطامحين إلي نشر البؤس كي تسهل لهم السيطرة علي الشعوب, لا يعود أمام شخص يحترم نفسه وصادق معها مثل ##أبو مازن## سوي الانسحاب. لو فعل العكس من ذلك, لكان عليه بيع شعبه الأوهام. ولكن من قال إن الشعوب لا تتعلق بالأوهام وتعشقها؟ ألم يعش الفلسطينيون عشرات السنوات علي شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة, فكانت النتيجة انتقالهم من كارثة الي كارثة أخري. كانت حرب غزة الأخيرة التي رفعت بعدها ##حماس## شارة النصر إحدي هذه الكوارث المدوية. ما يدعو إلي الأسف أن تصرف ##أبو مازن## قد لا يؤدي الي صدمة علي الصعيد الفلسطيني, صدمة تدفع في اتجاه البحث عن مخرج ما. هل من مخرج؟ الجواب أن لا مفر من ترتيب البيت الفلسطيني أولا والتمسك بالبرنامج الوطني في انتظار غد أفضل… في انتظار أن تستفيق الإدارة الأمريكية من غيبوبتها, فتعي أن سياستها الحالية لا تخدم سوي التطرف والمتطرفين الذين تدعي محاربتهم!
نقلا عن المستقبل اللبنانية