تترنم النفس البشرية بالروحانيات فتستمد قوتها وطاقتها في مواجهة جراح وضغوط وآلام الحياة من خلال رسالة السماء -عبر صفحات الكتاب المقدس- للتعابي وللذين في الضيقة العظيمة (والوارد ذكرها في سفر الرؤيا).
ومن بين الفنانين المبدعين الذين قدموا لنا بعض ملامح سفر الرؤيا,نذكر تسجيل الفنانين المتميزين د.يوسف نصيف ود.بدور لطيف لبانوراما أيقونية فريدة كواحدة من أجمل ترجمات هذا السفر فهي تحملنا لعالم السماء والروحانية حيث تتزامن أحداثها مع تذكار ”الأربعة كائنات” (غير المتجسدة),والتي تحتفل بها كنيستنا الأرثوذكسية في 8هاتور (18نوفمبر,وتذكار 24قسيسا في4ديسمبر).
ويعد سفر الرؤيا من بين أهم وأعظم مصادر الإلهام للفنان القبطي…فالنص الذي استلهم منه الفنانان أيقونتهما يبدأ بآية الانتصار التي أراد الله أن يطمئن بها كل البشرية وكذلك يوحنا الرائي القديس (كاتب سفر الرؤيا) عندما كان منفيا في جزيرة ”بطمس”:
”من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي” (رؤيا3:21) فسجل الفنانان بهاء وهيبة العرش الإلهي وعظمته,حيث سكبا الرمزية بقوة وبراعة عبر خطوط الأيقونة لتشكل ملامحها اللاهوتية والعقائدية والطقسية وأيضا الروحية…
ومن خلال التكوينات اللونية المعبرة شكل اللون الأزرق أساسا في الأيقونة ليشير إلي السماء وكذلك اللون الأحمر الذي يشير إلي ملك الملوك.فالرؤيا التي تمتع بها القديس يوحنا عندما صار في الروح شاهد خلالها العرش في السماء ومن حوله ”قوس قزح” الذي يرمز إلي عهد الله مع الإنسان بعد طوفان نوح البار.
استخدم الفنانان د.يوسف ود.بدور لغة التكثيف واختزال العناصر ببراعة متناهية,فعمدا إلي تصوير أربع وعشرين نجمة ذهبية لامعه حول العرش للدلالة علي الأربعة وعشرين قسيسا المتسربلين بثياب بيض وعلي رؤوسهم أكاليل من ذهب (الوارد ذكرهم بسفر الرؤيا),وهم في التفسيرات الأبائية يحملون في مضمونهم العمل الكهنوتي,ويرمزون إلي كنيسة العهد القديم (12سبطا),وكنيسة العهد الجديد (12تلميذا للسيد المسيح) .أما السبعة مصابيح المتقدة (هي سبع أرواح الله) والتي رآها القديس يوحنا,فقد عبر عنها الفنانان بألسنة لهيب النيران المشتعلة والتي تذكرنا في تقليدية بارعة بالعليقة التي رآها موسي النبي والتي ترمز للقديسة مريم أم يسوع الإله الظاهر في الجسد,وكذلك بالسبعة رؤساء الملائكة.
في حين تعلمنا التفسيرات الأبائية أن السبعة مصابيح المتقدة ترمز إلي الروح القدس العامل في الأسرار الإلهية السبعة.
”وقدام العرش بحر زجاج أشبه بالبللور” وصوره الفنانان وهو يمتلئ بالحياة والحركة,فهو وإن كان يذكرنا ببحر العالم وضجيجه الذي لا يهدأ سوي في حضرة الرب يسوع,إلا أنه يرمز أيضا بقوة إلي المعمودية التي بدونها يستحيل علينا أن نقترب من عرش الله أو نتحد به.
وقد أجاد الفنانان تحديد أماكن شخوصهما,خاصة الأربعة كائنات غير المتجسدة المملوءة عيونا من قدام ومن وراء ومن داخل (رمزا للاستنارة والبصيرة في الماضي والمستقبل.ولكل واحد منها ستة أجنحة (وترمز إلي ما ورد في سفر إشعياء:باثنين يغطي وجهه,وباثنين يغطي رجليه,وباثنين يطير) (إشعياء6:2).
ومن بين التأملات والتفسيرات الأبائية العديدة,ما أورده القديس أثناسيوس:بأن هذه الكائنات ترمز إلي البشريين الأربعة الذين حملوا البشارة إلي العالم..حيث يري أن ”شبه الأسد” يرمز إلي القديس مرقس (وفي أغلب أيقوناته يصور بجواره الأسد) خاصة وأن الإنجيل الذي كتبه (بوحي الروح القدس) بدأه بالحديث عن القديس يوحنا المعمدان الصوت الصارخ في البرية مثل الأسد.أما الكائن الثاني ”شبة الثور” فهو يرمز إلي القديس لوقا الذي تحدث من بدايات إنجيله عن الذبائح,والكائن الثالث الذي ”له وجه مثل وجه إنسان” فيرمز إلي القديس متي الذي بدأ إنجيله بسلسلة أنساب السيد المسيح له المجد.بينما الكائن الرابع ”شبه نسر طائر” فيرمز إلي القديس يوحنا الحبيب اللاهوتي والذي بدأ إنجيله بالكلمة وحلق من خلال كتاباته (المسوغة من الروح القدس) في اللاهوتيات (خاصة إنجيل يوحنا وسفر الرؤيا).
ومن الفسيرات التأملية الجميلة ما قاله القديس ”إيرونيموس” إن هذه الكائنات تشير إلي عمل الفداء,فيرمز ”وجه الإنسان” إلي التجسد,و”شبه الثور” إلي ذبيحة الصليب,و”شبه الأسد”إلي القيامة بينما يرمز النسر إلي الصعود.
وكذلك برع الفنانان في إطار اشتراك الخليقة في التسبيح والتمجيد من خلال تواجد ثلاثة من الملائكة حول العرش,والشمس والقمر,والكرة الأرضية أسفل قدمي المخلص الجالس فوق العرش…وفي داخلها سبع كرات (7عدد الكمال)ويرمز إلي خضوع كل مجرات الكون إلي الخالق.
ورغم بساطة خطوط الأيقونة ورقتها البالغة إلا أنها ثرية بالأحداث والمعاني ويتأكد فيها تناغم الحركة والتي تبعث الحياة في نسيجها (وهي سمة تتميز بها مدرسة الفنانين د.يوسف ود.بدور),من خلال انسجام حركة الشخوص وامتزاجها بالرمزية في انسيابية مدهشة وتلقائية بارعة.
أما الجالس علي العرش فهو أروع ما في هذه الأيقونة فنظرة عيني السيد المسيح له المجد تأخذنا بكل ما تحمله من معاني الحنان الإلهي المبهر والفرح الذي لا ينطق به…لإتمام الفداء وإنقاذ البشرية التي أحبها حتي المنتهي,لتوجه عيوننا نحو السماء حيث يدعونا لنترنم عبر البحر النقي شبه البللوري..وتمتزج أرواحنا بالسبعة كائنات غير المتجسدة فنشترك في تمجيد الخالق:
”قدوس…قدوس…قدوس”