أتذكر مرة عندما كنت عائدا من العاصمة الأردنية عمان فى طريقى للقاهرة، إلتقيت شابا يعمل فى تنظيف دورات المياه فى المطار، ودار بينى وبينه حديثا عن أحواله فى الغربة، وعلمت منه أن الأجر الذى يتقاضاه يكفيه بالكاد، وقلت له أنه من الممكن أن يعيش فى بلده بالكاد أيضا، فأجاب بأننا لا نفهم كثيرا العمل فى ظروف غير آمنة، وكيف أن أمثاله عرضة للإهانة والاشتباه وقطع الأرزاق، وفوق هذا وذاك الإحساس اليومى بالمرارة بسبب متطلبات لا يسطيع الوفاء بها، وقال لى: أنت لا تعرف الاحساس بالعودة إلى منزلك وأنت عاجز، نظرات العيون تقتل، وهنا على الأقل لا أحد يعرفنى ولا تقتلنى نظرات العيون.
أقول هذا بسبب واقعة غرق وموت أعداد كبيرة من الشباب المصرى وهم يحاولون الهروب إلى إيطاليا، تلك الواقعة التى أثارت صدمة وضجة كبيرة، فهى، بلاشك، مأساة بكل معانى الكلمة ولكنها فى نهاية الأمر مأساة متوقعة، وكما حدثت فسوف تحدث مستقبلا طالما ما لم تتغير الظروف التى تدفع الشباب نحو الهروب بحثا عن الخلاص من مجتمع بات العيش فيه كالموت. والكل يعرف أن الشباب لا يسعى إلى الموت أو الانتحار، بل ربما العكس فهو يهرب من الموت والانتحار، ذلك الموت المعاش والذى يسعون إلى الخلاص منه أو فيه، فالخلاص يعنى الانعتاق كما يعنى النهاية. وغالبا نحن لا نتحدث عن مواطنين لهم حقوق بل عن موتى يحلمون ببعث جديد فى مكان مجهول قد يجدون فيه خلاصهم. وبهذا المعنى فإن التفكير فى أن مجازفات كهذه قد تكون نهايتهم يصبح أمرا بلامعنى.
وما يزيد من الاحساس بالمرارة أن أسباب مما يحدث واضحة للجميع، ولكن لا توجد إرادة فعلية لوقف المآسى الإنسانية، بل على العكس من ذلك فكل المؤشرات تؤكد أن عوامل الطرد الاجتماعى تزداد حدة بفعل الفقر والتهميش والاستبعاد الاجتماعى سواء من منظور الفقر المطلق أو النسبى. فالحلم بالخلاص هو مجرد حلم وتوهمات بأن المجهول قد يحمل ما هو أفضل، ولكن الأكيد أن البقاء أشبه بالفناء.
والمشكلة الحقيقة هى أننا أصبحنا نعيش فى عالم من الهجرة والتهجير، وليست محاولات الهجرة إلى الغرب إلا إحداها،فهناك الهجرة نحو العنف بكافة أشكاله الدينية والاجتماعية وكلنا يتذكر التنظيم الذى حمل اسما دالا وهو “التكفير والهجرة”،وهناك كذلك الهروب فى عالم المخدرات، أو حتى الإنزواء والعزلة والهروب نحو الذات. إن عوامل الطرد والاستبعاد باتت فائقة، وخارج السيطرة. إننا فى عالم بات فيه البحث عن الخلاص عملية معقدة، فقد يكون الخلاص فى قتل الآخر بحلم الوصول إلى جنات الخلد، وقد يكون قتل الذات أملا فى بعث جديد فى أرض الأحلام، وفى ظل أنظمة طاردة لم يعد الخلاص عقيدة بل سلعة فى أسواق سوداء تنتصب على الحد الفاصل بين الموت والأوهام، وفى هذه الأسواق لا يذهب الحالمون للبحث عن عمل ولكن للبحث عن الخلاص ولا فرق فى أن يكون البداية أو يكون النهاية.