الغضب المعجون في ماعون الأمل المصلوب علي خشبة قلة الحيلة والعجز, مسمر اليدين والقدمين, الخوف الواقف خلف بوابات انتظار الموت, يراقب الأنفاس, يختزنها في اللاوعي تسكن حاجته إليها, الشعور بالذنب, علي ما مضي, والميل لجلد الذات وتفسير كل شيء علي اعتباره عقوبة إلهية أنزلها الله بالإنسان جزاء له علي خطية بعينها, ثم الإنخراط في الحزن, وبالبكاء والوحدة والعزلة ترقيا لموجة الموت الهادرة التي ستأتي لتعصف بالجسد وحيدا في قبر مظلم موحش, وتنطلق الروح الي المجهول الذي مهما آمنا به ورجوناه, يظل مجهولا, فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي لم يختلف عليها البشر, لكنها الحقيقة التي لم يعد أحد ممن خاضوا اختبارها ليروي لنا وحشته أو روعته كل حسب سيرته وقلبه. هذا هو شعور مريض السرطان, أي مريض سرطان يمر بهذه المشاعر, وللأسف قليلون من يتبنون فكرة التأهيل النفسي لمرضي السرطان, والتي يقع عليها عبء كبير في بث مشاعر الأمل وتخفيف وطأة الآثار الجانبية للعلاج الكيماوي والإشعاعي.
اليوم لدينا قصة لشابة جميلة تسمها ندي, في الثلاثين من عمرها, متزوجة من رجل في التاسعة والثلاثين من عمره, جاء مذهولا محمولا علي أجنحة الرعب لأنه يكاد يفقد ندي, يتقدم خطوة ويعود خطوات, يتلعثم, يتكلم, يصمت, يفرك كفيه, ثم يدعك وجهه بكلتا يديه, لا يعلم كيف يبدأ مثل كل من يأتون إلينا, لذلك بدأت بالأسئلة المعتادة عن سنه وعمله.. الخ, لجذبه الي دروب الفضفضة فقال:
اسمي سعيد, عمري 39 سنة, متزوج, وأعول ابنتين: الكبري ثماني سنوات, والصغري ثلاثة شهور, لم يكن الستر بعيدا عن بيتنا, فراتبي 3000 جنيه, أعمل فنيا في إحدي الشركات الكبري, زوجتي ربة منزل عمرها 30 سنة, التزاماتنا خفيفة وطبيعية, فليس بيننا مريض أو معاق مثل عائلات كثيرة, وطالما شكرت ربي علي نعمة الصحة والستر التي لم تستمر, أشعر وكأنني في دوامة لا أعرف من أين نقطة البداية أو الي أين نقطة الانتهاء, فبعد أن بلغت ابنتنا عمرها السابع فكرنا في الإنجاب مرة أخري, وحملت زوجتي, ثم اتضح أنها حامل في توءمين, وعند وصولها للشهر الخامس, أبلغنا الطبيب أن واحدا من الجنينين قد مات, لأن كل جنين موجود في كيس منفصل, وطبقا لاستشارات الأطباء أمكن استكمال الحمل بشكل طبيعي لإنزال الكيس الفاسد مع الجنين الطبيعي في لحظة الولادة, وهو ما حدث فعلا.
مرت الأيام ورزقنا الله بمولودنا الجديد, وبعد شهر من الولادة دخلت زوجتي في حالة نزيف حاد, ومن طبيب الي طبيب صرنا نتخبط, من يؤكد لنا أن هناك بقايا من المشيمة والحبل السري, داخل رحمها. ومن يطلب جراحة كحت. في النهاية طلب الأطباء تحليل عينة من الرحم, هنا صمت الزوج, ابتلع حروفه داخل صدره, عيناه الزائغتان لم تستقرا سوي فوق الأرض, أدركت أنه اللعين, لكنني كذبت نفسي, وتركته ينطق بها خشية عواقب التخمين الخاطئ, بدأ سعيد يفقد قدرته علي الكلام, ثم يستمر لكن بجهد ملحوظ قائلا:
اكتشفنا أنه ورم خبيث, انتشر ووصل للرئة, النزيف مش بيوقف, والعلاج الكيماوي اللي بدأنا فيه ضرب جهاز المناعة فلازم تاخد مقويات مناعة, الحقنة الواحدة سعرها 500 جنيه, أما جلسات الكيماوي فسعر الجلسة الواحدة 6830 جنيها, أخذت ثلاث جلسات, وفاضل ثلاث جلسات, ويعيدوا التقييم تاني, علشان الدكاترة يقرروا تستكمل العلاج الكيماوي ولا توقفه, وماعندهاش تأمين صحي, ولا حالتها تسمح بالانتظار لما نشوف دور في العلاج علي نفقة الدولة لكن برضه ماسكتش.
رحت مستشفي الأورام لما شفت المنظر خفت, رجعت في حالة ذهول, الناس قاعدة علي الأرض, ناس بتدخل تكشف وناس مابتدخلش, ناس قاعدة وناس نايمة علي الأرض, وناس جاية من الصعيد ومش لاقية مكان حتي تحط فيه جسمها, ستات قاعدة علي الرصيف بتبكي, وكأن البلد كلها عندها سرطان!! وناس بتقول إن الخدمة كويسة بس الدور, الدور علشان ييجي علينا يكون السرطان خلص علينا, طيب وندي وشبابها, وابنها الصغير اللي محتاج لها, ده لسه رضيع, أنا مش عارف أشوف شغلي, وهي يتيمة لا أب ولا أم ولا إخوات, يعني أنا اللي بأجري بيها, مرتبي كله 3000 جنيه يعني ما يجيبش نص سعر الجلسة, غير العلاج الموازي اللي بيتكلف تقريبا 3500 جنيه, الناس دلوني عليكم جيت, يمكن نقدر نلحقها, انتظار الدور معناه انتشار المرض, إحنا لا عندنا ورث ولا تحويشة إحنا كنا مستورين, كل اللي حيلتنا راح علي الفحوصات واللف علي الدكاترة والولادة.
عايزة أعيش
استمعت الي سعيد, وبعد أيام ذهبت لزيارة زوجته ندي, هناك في بيتهما الصغير, وجدتها مستلقية علي فراشها أقرب للموت منها إلي الحياة, تخدمها جارتها, التي تعتني بابنتها الكبري, ترفع جفنيها بصعوبة لتفتح عينيها, لا تقوي علي بسط ذراعيها, ولا ضم وليدها الي صدرها الذي جف فيه لبن الحياة, الي جوارها تركت جسدي ينهار جلوسا, الصمت سيد الكلام, الضعف يفوز بلا منازع في مشهد الأوجاع, قالت بلا مقدمات: أنا عايزة أعيش, عايزة أعيش, وأربي عيالي, وأطمن عليهم, مش عايزة آخد كيماوي وإشعاع وآجي من الجلسة يخبوا العيال مني علشان ما يتاذوش, عايزة أعيش مع جوزي, حياة طبيعية أسعده وأفرحه, عايزة أفضل حلوة, مش عايزة شعري يقع, مش عايزة أموت بالبطيء, وكل حتة في جسمي تموت قبل ما روحي تموت, زي ما باشوف اللي بيحصل لكل مرضي السرطان, تفتكري هالحق؟ تفتكري ممكن؟ ولو مارجعتش, هاعيش كام سنة حمل عليهم , يشيلوا ويحطوا في ويشحتوا علي؟ كام سنة عالة؟ ده لو سنة واحدة كتيرة, المرض ده مرض اللي لا عايشين ولا ميتين, مرض اللي عايشين ميتين ومموتين اللي حواليهم, مش هاقدر أشوف حب جوزي, ورغبته بيتحولوا لشفقة, وجري في الشوارع, علشان يجمع لي تمن الجلسات, مش هاقدر أشوف خوف عيالي من حالتي لما أدخل في مرحلة الألم, مش هاقدر أشوف ملل الناس مني ومن أحزاني ودموعي وانتظاري الموت كل لحظة, ليه ربنا ابتلاني بالمرض ده؟ أنا ما عملتش حاجة وحشة علشان يبتليني بيه, ليه؟.
أمام علامات الاستفهام الصارخة سقط كل منطق يمكن الاستناد إليه سقطت دموعها, كنت ممسكة بيديها فصارت هي الممسكة بيدي, مع كل ضغطة ألم, تعض شفتيها بقوة ثم تعود لتردد عاوزة أعيش علشان عيالي, وشعرت بسيف الوجع يجوز في نفسها, الإحساس بالظلم حالة, الشعور بالخوف حالة, الشعور بغياب العدل, بغياب الأمان, بغياب العزوة والعيلة, بالخوف من المجهول والمستقبل, الموت مرعب حينما ننتظره, حقا لا أجد وصفا ثريا, ويشق علي صدري وصف الكلمات في موقف جلل, لكن كان علي التفاعل مع علامات استفهامها ومحاولة سد ثغرات التعجب علي كلمة لماذا في صرخاتها فدار بيننا الحوارالتالي:
* يا ندي الكتاب بيقول لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن ليتمجد اسم الله مش لازم تكوني عملت خطية ربنا بيعاقبك عليها, لو ربنا بيعاقب الناس علي كل حاجة لن يتزكي قدامه حي.
** لكن الله مش ظالم علشان يعذبنا لمجرد أن اسمه يتمجد, في ناس كتير عايشة طبيعية, وأطفال بتموت بالسرطان, ايه سبب اختيار واحد وترك التاني؟
* لو كل سؤال في حياتنا له إجابة مش هاتبقي حياة, حكمة الحياة أحيانا في غموضها, وأحيانا في تأجيل اكتشاف كنز المعرفة, لأن من يزداد علما يزداد غما.
** أنا نفسي أعيش.
* كلنا نفسنا نعيش, بس المهم ازاي نعيش, ياما ناس عاشت عمر طويل, وكرست كل حياتها علشان تخلف طفل, وماقدرتش, وأنت عندك تلاتين سنة وربنا اداكي اتنين, ياما ناس اتجوزوا وعاشوا تعبانين, وانتي متجوزة من تسع سنين وسعيدة, كل واحد مننا له كاس مزيج من السعادة والشقاء, جرعة لا تنفصل, بكل اللي فيه شقا وسعادة, متوزعين حسب الحظ, حظك كانت السعادة في الاول, خلي عندك أمل في بكرة مين يعرف؟
** لسه ما سمعناش عن حد جاله المرض ده ورجع طبيعي صح؟
* انتفضت وأجبتها, لاء مش صح, ثم أكملت: مرضي السرطان مختلفون في نوع المرض وموقعه في الجسد وشدة الإصابة به, ووقت الاكتشاف, لما اكتشفوا المرض في جسدك, كان بدري, والنزيف الحاد بعد الولادة كان الإنذار الكاشف, وحاليا أنت في مسيرة العلاج, الأمل لسه موجود, أوعي تفقدي الأمل لأن المرض ده علاجه في الإرادة, وحب الحياة, والتغلب علي الاكتئاب وفكرة الموت اللي بتحوم حول مريض السرطان, الموت فكرة حائمة حول الجميع منذ الولادة, كل ما في الأمر أن معرفة الإصابة بمرض السرطان تجذبها من اللاوعي وتضعها علي مستوي الشعور طول الوقت, إذا أبعدتي الفكرة عن خيالك وفكرتي في علاجك هاتكوني عبرتي نص الطريق للتعافي.
تلك هي قصة ندي وسعيد, ندي تعاني من ورم خبيث في المشيمة, ويتم علاجها طبقا للبروتوكول: EMA – CO:, ليس لديهم المال, ولا العائلة التي تساند وتراعي ليس لديهم أي شيء سوي الرغبة في الحياة, ليس لديهم القدرة علي الوقوف في طوابير العلاج علي نفقة الدولة, والشعور بمزيد من الظلم في جمهورية الظلم التي تتحكم فيها ممرضات جاهلات في حياة مرضي كل ما ارتكبوه من ذنب هو أنهم فقراء, سعيد وندي حكاية حب وأسرة في مقتبل العمر وأطفال يبتسم لهم ثغر الربيع, لا يريدون أن يكونوا رقما في كشوف الصدقة, ولا يريدون أن يكونوا ملفا في معهد الأورام, هذا حق الخائف, لا يمكن إجبارهم علي الطمأنينة, يكفيهم القلق الهيستيري من أن يكون السرطان قد انتقل للوليد لأنه اشتبك مع المشيمة التي بالضرورة كانت مشتبكة مع الجنين.
في جمهورية الظلم نحتاج أن يتراحم مواطنيها ربما يأتي اليوم ويرفع الله ظلما كان مكتوبا سنوات طوال, في جمهورية الظلم, نحتاج أن نصدق بعضنا البعض, وندعم بعضنا البعض, وندفع بعضنا البعض الي التعافي الجسدي والنفسي, أن نشعر بالآخر, ونترك الآنا, أن نثبت لمملكة الظلم أن يوما ما ستشرق الشمس علي العدل في جنباتها طالما ناضلنا ضد الكراهية والعزلة والأنانية والتوحش.
كل ما يحتاجه سعيد استعادة زوجته من بين أزرع هذا الإخطبوط الذي أشتبك مع جسدها وشبابها وكعادته لا يريد الرحيل إلا حاصدا حياتها, ندي صغيرة, فلا هي طفلة خالية المسئولية ولا هي عجوز أنهت رسالتها في الحياة.
أيقونة الصبر
لا يمكن أن نتحدث هذا الأسبوع عن السرطان دون أن نتذكر زميلتنا حنان كمال التي رحلت عنا قبل أسبوع مهزومة منه بعد أن أصاب ثدييها, ثم وصل إلي عظامها, ثم كليتيها, وقضي علي رئتيها في رحلة دامت ست سنوات, ختامها مثل كل الحكايات السرطانية الحزينة, بالموت الحتمي, كل المشاعر التي سقناها في السطور الفائتة, مرت بها حنان, بل وبأبشع منها, لكنها كانت أيقونة للصبر, لذلك أسوق ملخصا عنها لندي ربما تقرأه قبل أي شيء فيتجدد الأمل بداخلها, فالزميلة الراحلة كانت أما لثلاثة أطفال, وزوجة لزميل صحفي هو أحمد نصرالله, الذي أصيب منذ ثماني سنوات في حادث انقلاب سيارته وفقد وعيه وحينما استعاده فقد ذاكرته, راقدا في مصحة عبر السنوات الأخيرة فحنان لم تكن لديها القوة الجسدية علي رعايته, أذكر حنان اليوم لأنها شابة مثل ندي التي رواينا قصتها, شابة اختطفها السرطان من حضن صغارها, لكنها استطاعت أن تطوع السنوات الأخيرة في حياتها من أجل التأمل رغم الخوف, ورغم الوجع, استطاعت أن تنتج كتابا من الشعر النثري الذي يوثق لمشاعر مريض السرطان, وخياله, ومخاوفه أو طموحاته, والتي كثيرا تقع من حسابات بعض العائلات أثناء رعاية المريض, وتغفل تلك الأحاسيس المنصهرة في بوتقة الكيماوي وجهاز الإشعاع.
قالت حنان في كتابها الذي يحمل عنوان المشاهدة
مسكينة
تتخفف الأحمال مني
ولا أتخفف منها
لو أدركنا أننا ننتصر في هذه الحياة
لما تمسكنا بجرعة الماء الأخيرة
حتي تنجينا من الموت عطشا
لما عبثنا بالوقت طمعا في الدقائق الإضافية
التي ظننا أنها فرصتنا الأخيرة
لما تشبثنا بأذرع الذين يجاوروننا في الصف
معتقدين أنهم سيمحون وحدتنا
ولما إدخرنا كسرة الخبز حتي أصابها العفن
لو أدركنا أن لعبتنا التي نلهو بها كالصغار
لن تمنحنا النصر أبدا
كصغار لن نحصد سوي متعة اللهو البرئ
بينما ينتصر الكبار
المتحصنون بمتاريس لا نفقه سرها
لو أدركنا الأمر لاختفي كل هذا
صنع المرض والألم من حنان شاعرة نثر, تحمل فلسفة عميقة في الحياة, الألم أكبر صانع للمعرفة, ومريض السرطان هو الوحيد الذي يمنحه الله فرصة عظيمة ليرتب حياته, ويعيد ترتيب أولوياته, ويضع كل في موضعه الصحيح, ويصلح ما كسرته الأيام, ويقترب ممن كان بعيدا عنهم, ويبتعد عمن كانوا يستنزفونه, يري الحقيقة عارية بلا رتوش, أو تجميل, حقا إنني أتساءل هل هي نعمة أم لعنة, نعمة المعرفة مع لعنة العذاب, أم نعمة الموت بلا عذاب مع الحياة بلا معرفة, أيهما نريد حينما تصل مراكبنا الي شطوط النهاية؟