هل اختبرت الغضب؟ كيف كان الاختبار؟ هل أفسد العلاقات الحميمة, وأفقدك الطيب والجميل في واقعك الحاضر من أجل أوهام الماضي أو المستقبل, هل خضت تجربة الدخول إلي ذاتك؟ وتعرفت علي دوافعك, ولماذا تئن غاضبا إذا ما تقاطعت رغبات شريك حياتك مع رغباتك؟ لماذا تئن من شريك الحياة ولا تعترف أنه أيضا يئن منك؟ هل اختبرت الحياة مع شريكك تحت ضغط الانفعال الدائم, والإهمال الدائم, والعوز اللانهائي, فتركت الدائرة المشروعة وضللت الطريق إلى نفس شاردة مثلك, حتى خرج المارد من عمق احتياجكما, لكنه لم يكن البطل ولا المنقذ بل كان الجبار المدمر, هكذا تمر الحياة بين أصابعنا مثل الماء تتسرب, ولا نجدها, وبين دوافعنا المجهولة, ونفوسنا أنها شفرة أمام أقرب الناس إلينا, تغيب روعة الحقيقة التي فطرنا الله عليها, ولا ندرك أننا السبب الأول وربما الأخير فيما يجري لنا.
جلست إيمان في مواجهتي تتلوي مثل الراقص فوق مسرح الوجع, يتحرك جسدها حركات لا إرادية من فرط الأوجاع النفسية, تقر بأنها أفسدت حياتها لكن ليس لديها مهارة العودة والبدء من جديد, وصفت حالتها قائلة: أنا زوجة في منتصف العمر, أعمل في وظيفة مرهقة جدا, وزوجي يعمل في وظيفة أقل إرهاقا, علاقتنا الزوجية صارت أشبه بجبل الجليد الذي لا يمكن قصفه ولا حتي بصواريخ الغفران, صار لكل منا حلمه الخاص, ولكل منا عالمه الخاص, وجاءت تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي لتزيد الفجوة بيننا, واحتملت ما لم أكن أتوقع من نفسي احتماله, واكتشفت في عالمه الخاص أخريات, يصارحهن بما لا يبوح به معي, ومن أجل كرامتي قررت الصمت, وعشت في عالمي الخاص الذي شيدته من الشعور بالقهر والظلم, وانخرطت في التضحية من أجل أبنائي, وماذا بعد, صاروا كتلة من الانتهازية, كل منهم لا يبحث سوى عن راحته وطلباته, أين أنا من الجميع؟ لا أجد نفسي لا أحد يراني, حتي الحب المشروط الذي أفنيت نفسي لأجنيه, الآن لم أعد أجده, أفرطت في خدمتهم حتي أنال قسطا من الحب المشروع, لكن رويدا رويدا صار الإفراط حقا متكسبا, وواجب علي القيام به, صار الحب المشروط, شروط بلا حب, وكأنها شروط البنوة, غابت نفسي من الأسرة, صرت رقما, مجرد رقم, بلا حقوق ولا طلبات.
فجأة قفزت احتياجاتي إلي قمة شعوري, لم يعد الإفراط في تقديم ذاتي يتصدر أولوياتي, وواجهت إلحاحا من احتياجاتي, صرت أكثر احتياجا للحب, للأمان, للحب بدون شروط, للحب حتى بكل عيوبي, وصفاتي القبيحة, صرت أكثر احتياجا لأن يرى من حولي أعماقي, وشعوري بالعوز الدائم للتقدير والاهتمام, ومع غياب سداد الاحتياجات, صار الغضب سمة من سماتي, ثورة تسكن أرجائي, تشتعل لأقل الأسباب, احتراق يمزقني, ولا أجد مبررا قويا, لكنني أجتهد لإنتاجه, لم أعد أحتمل ما كنت أسعى أنا لبذله من أجلهم, لم أعد أحتمل ضغط الأبناء وطلباتهم, ولا القطيعة والخيانة وعدم التقدير من زوجي, لم أعد أحتمل اللوم والتأنيب, ولا نظرات الإدانة, من أسرتي وأصدقائي, وتوجيه الاتهامات بأنني أم عصبية, وزوجة نكدية, فقدت لجام الحصان القابع في مشاعري, وهياجه الذي وصمني بعد كل التضحيات طوال عشرين عاما, صار المنزل مسرحا للمعارك الكلامية, وصارت رقصتي المفضلة هي الوقوف أمام المرآة ولطم الخدود, والبكاء المتواصل حتى تركت البيت.
وعدت إلى بيت أمي الوحيدة لأعيش معها, وحيدة مثلها, بلا ونيس ولا شريك, لا أستطيع البقاء معهم لأنهم لفظوني بإهمالهم, ولا أستطيع الابتعاد عنهم فالوحدة قاسية وخريف العمر قد لا يحتملها, ثم وقعت عيناي على ما نشره باب افتح قلبك من المساعدة النفسية والأسرية في سرية تامة لذلك جئت إليكم اليوم فماذا أفعل؟
** استمعت إليها في صمت, ثم سألتها: هل سمعتي عن الرقص الصوفي؟, إنه نوع من أنواع الذكر عند متبعي الطريقة الصوفية. ويكون بالدوران حول النفس والتأمل الذي يقوم به من يسمون دراويش بهدف الوصول إلى مرحلة الكمال, ويهدفون إلى كبح شهوات النفس والرغبات الشخصية عبر الاستماع إلي الله والموسيقى والتفكر في الله والدوران حول النفس الذي أتى مفهومه من خلال دوران الكواكب حول الشمس. هكذا أنت لكن للأسف أنت ترقصين رقصة القهر كل يوم, تدورين حول نفسك ولا تنصتين إلى صوت الله, ولا تحاولين التأمل, ولا الدخول إلى عمق نفسك, لتضبطيها متلبسة بدوافع الغضب الحقيقية, حتى تكبحي هذا الغضب, وتناقشي احتياجاتك التي تحولت إلى رغبات, فهناك فارق بين الاحتياجات التي خلقها الله فينا وهي طبيعية إذا لم تتم تلبيتها تصير عبئا على نفوسنا, وبين ما نطمح في تلبيته من رغبات, هذه الحدود الفاصلة بين الاحتياجات والرغبات غائبة عندك, ربما لا نستطيع تغيير من حولنا. ولا أقول إنهم نموذجيون أو مثاليون في علاقاتهم معك ولكن ما تملكنه في الواقع هو تغيير ذاتك والبداية بقراءتها وفتح حوار معها حوار يفند الإدعاء بأنك مقهورة ومظلومة وغير مقدرة يفند الإدعاء بأنك تريدين العودة من أجل الخوف من الوحدة وليس من أجل الحب الحقيقي الكامن في روحك تجاه أسرتك.
نعم لدينا احتياجات ولدينا إحباطات من أقرب الناس إلينا , لكن الاستسلام لها ليس الحل المطروح في ظل تاريخ من التضحيات, علينا اكتساب مهارات جديدة في الحياة تمكننا من إعادة فتح الحوار مع ذوينا, فالنقاش هو الوسيلة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الدخول لعمق الآخر وتحليل سلوكه, وحذبه من جديد نحو الصواب, والتعرف على مشاعر زوجك ومحاولة التلامس معها مثلما تتلامسين مع مظلوميتك وقهرك تماما صدقيني ربما تجدينه مقهورا أكثر منك لأسباب ودوافع غير مرئية لك, فالأمور النفسية والعلاقات الزوجية لا تقاس بترمومتر المعايير الثابتة, بل تخضع لتغيرات وتقلبات تعود لجذور وتنشئة واحتياجات, وممارسات تراكم عليها تراب الزمن, تخرج منه ولا تخرجه, أزيلي التراب من فوق نفسك وتاريخ زوجك, سوف تجدي الدوافع الحقيقية, وحينها تتضح الرؤية وتستطيعين اتخاذ قرارك بالعودة من عدمها في ظل النور الذي سوف يسطع في قلبك حينما تستبصرين بمعرفة ذاتك وذوات من حولك.
أناسيمون .. عروس الكفر المهجور
في ليلة عيد الميلاد حدثتني بلهجتها الصعيدية البسيطة, من قلب أحد كفور المنيا جاء صوتها راضيا في غلب الغلابة المكسورين قالت: أنا أناسيمون, إللي أبونا كلمك عني يا طنط, عندي 20 سنة, وهاتجوز يوم 10 يناير, بعد العيد بتلات أيام, ماجبتش أي حاجة من جهازي ولا تلاجة ولا بوتاجاز ولا غسالة ولا لبس ولا أدوات مطبخ, ولا أي حاجة وأبونا قال هايديني مبلغ وراح يلم لنا شوية فلوس وهو جاي من البلد علي الكفر عمل حادثة بالعربية السواق مات, وهو اتكسر, وأنا أعمل إيه يا طنط, ماليش حد وأبويا مابيتشتغلش, عنده فشل كلوي وبيغسل كلى, وقاعد في البيت, والكنيسة بتساعدنا؟. سألت أناسيمون: فرحك بعد تلات أيام ومافيش حاجة تمت أنا مش هاقدر أجيب كل حاجة, ومافيش حد ممكن يوصل لك النهاردة و بكرة العيد إجازات بريد نعمل إيه دلوقت. ردت بصدق وثقة: ربنا يدبرها زي ما بعتك لينا هايبعت حد يجيب لنا المساعدة إن شاء الله. أنهيت المكالمة, وأتصلت بأبينا المسئول عن خدمة إخوة الرب في الكنيسة التي تتبعها وبعد الاطمئنان علي صحته -عقب الحادث- علمت أن الفتاة في احتياج شديد جدا والكنيسة ساعدت بما تستطيع, فالكنائس فقيرة جدا داخل القريى والنجوع المنياوية تحديدا والصعيدية عموما.
تملكتني الحيرة, وظللت أفتش في ذهني وقائمة أرقام هواتف أصدقائي في المنيا حتى توصلت لأحدهم ووافق على حمل المبلغ الذي حدده باب أفتح قلبك لمساعدة أناسيمون به وتم السحب عليى المكشوف لأن الجريدة كانت في إجازات ليلة عيد الميلاد -ولأننا لن نلحق بموعد النشر, ولأن الحالة لا يمكنها الانتظار, وبعد التيقن من الحالة وزيارة الزميل لها, أعطاها المبلغ, وقال لنا في اتصال هاتفي: الغلب مالوش جيوب, ولا يعرف الفرحة, ناس مكسورة, وفرحة مهزومة, وعروسة مطفية من الفقر والحرمان. أوجع قلبي ما قاله وشعرت كم يحتاج الصعيد وأهل الصعيد إلى نظرة فاحصة من الجميع ليس من الكنيسة فقط, فالتكافل الإجتماعي أساس الحياة الصحية والمجتمعات السليمة نفسيا, ولا يجب أن يحيا أشخاص على الكفاف مهمومين بتدبير أقل القليل من أكل ومعيشة, وغيرهم تحت حد الكفاف لا يمكنهم حتى تدبير ما يصون الكرامة الإنسانية, في حين يحيا البعض في قصور مشيدة فوق أفضل بقاع الوطن, يحيون ناسين أو متناسين أولئك المحتاجين, لا نستكثر عليهم ما جمعوه بعرق جبينهم, ولكننا نناشدهم التكافل, ومساعدة المحتاجين ولو بمشروعات صغيرة في تلك الكفور المهجورة.
لم تكن أناسيمون العروس الوحيدة من ذلك الكفر المنكوب, بل كانت يوستينا أيضا, والتي كتبنا عنها من قبل في نفس المكان.. يوستينا عمرها عشرين عاما, ووالدها فلاح, ولديها ستة من الأخوات وأخ واحد, مازال يدرس, وحينما سألتها قالت: إنها حصلت على الدبلوم, وستتزوج وتعيش مع أسرة خطيبها, ولا تريد سوى أن تدفع بقية تكلفة حجرة النوم وأدوات المطبخ, يوستينا فرحها يوم الأحد القادم, نفس الأزمة في السرعة التي تحتاج إلي إنجاز, قررنا وضع مبلغ مساعدة يوستينا مع مساعدة أناسيمون وأرسلناهم سويا, وعن يوستينا قال الزميل الباحث: لم أر بيوتا هكذا, أهلها لا يعرفوا شيئا عن الحياة خارج الكفر, لم أر في العاصمة وضجيجها, بساطة مثل بساطة الكفر والنجع الفقير الذي ذهبت إليه علي مضض في أول ساعات العيد, وأما ممتعض لأن هذا المشوار ثقيل علي قلبي في العيد, ثم أنهيته وقد تعلمت من الحياة ما لم أكن أتعلمه لو لم أذهب إلي هناك, حيث لا أعياد إلا للصغار, فالكبار مهمومون, والشباب قليلي الحيلة, والنساء في محاولة لإسعاد الجميع يخبزن ويطبخن ما لديهن حتي لو كان أقل القليل.
نحن أبناء الحضر لا نشعر دائما بأولئك القرويين, ولا نعلم عن حياتهم إلا القليل منها, ولا نستطيع تخيل معاناتهم أبدا, لكن علي الأقل يمكننا مساعدتهم وتصديقهم, ودعمهم, والاستماع إليهم, ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم, فالصعيد ليس المدن, وليس الأقصر السياحية, وإنما الكفور والنجوع المهجورة من معالم التمدن وخاضعة لتقاليد وعادات, وإمكانيات مرهقة نفسيا.
ماكينة خياطة
من يدخل الدائرة المدمرة المسماة بالإدمان, لا يعرف مشاعر الخجل, أو الخوف على الأسرة, أو الإقرار بالفشل, من يدخلها راضيا, أو مجبرا, ويكمل في طريق الإنحدار, فلا يرى سوي كيفه, واضطرابه, ولذته, يسجن ذاته داخل ذاته, ويمحو الحرية, وصك التعافي بكلتا يديه, ويزج بنفسه إلى غياهب السجون, فيسجن معه الأمان, والصدق, ويهزم غدا الذي ينتظره صغاره, هذا ما فعله رجل كتبنا عنه من قبل وعن زوجته صفية, تلك السيدة جميلة الوجه والقلب, تحملت فوق طاقتها بسبب زوجها المدمن الذي من أجل الإنفاق على الكيف, جلب ماكينة طباعة ألوان إلي منزله, أجبر أسرته على التستر عليه, وصار مزورا, يطبع الأموال ويشتري بها الهيروين, كاد يطيح بالأسرة كلها, حينما ذاع صيت ما يرتكبه من جرائم, واقتحم الأمن مسكنه, ليلقي القبض عليه, بعد محاكمة لم تطول صدر ضده حكم بعشر سنوات, لم تقصر صفية معه, بل تقوم بواجبها تجاهه من زيارات وصون لبناته, وعاشت على الكفاف, عملت في مصنع لكنها توقفت بعد إصابتها بانزلاق غضروفي, وعدم وجود أي شخص يمكنه رعاية ابنتها الصغرى التي تبلغ من العمر 13 عاما.
بالكاد تمكنت صفية من رعاية بناتها الثلاث حتى نجحت في تزويج ابنتين منهن, الآن زوجها مسجون في قضية تزوير العملة, وترعى الابنة الصغرى في الصف السادس الابتدائي, لكن صفية صارت بلا عمل, رغم أنها خياطة ماهرة جدا, لكنها أدوات, إذ تحتاج لبعض المساعدة حتى تعمل في منزلها, مساعدة لا تتعدى شراء ماكينة خياطة سينجر, وماكينة أوفر أربعة فتلة, إعانة بسيطة لكنها سوف تحل مشكلة كبرى, وتحفظ للأم فرصتها في تنشئة ابنة وحيدة لا أحد يعلم ماذا قد يحدث حينما يخرج والدها من السجن, لكن على أي الأحوال فقد قضي من مدته أربع سنوات, وتتبقي ست, حينها ستكون الفتاة في الثانوية العامة, ولا أحد يعلم ماذا قد يحدث, لكن ما نعلمه هو الحاضر المستقر أمام أعيننا, زوجة لرجل سجين, لا ذنب لها فيما جرى, تريد الإنفاق على ابنة قاصر هي المسئولة الوحيدة عنها حاليا بعدما حصل والدها على الجزاء المناسب له بالسجن, لكن لا يمكن أن نسجن معه المستقبل, لا يمكن أن نسجن الأمل, ونصارد الحلم, ونصدر حكما بإعدام الأماني الصغيرات.