قلما تجد أشخاصا يعبرون صراحة عن حبهم للسياسة، بما فى ذلك أولئك الذين يتربحون منها، فهؤلاء على وجه التحديد هم الأكثر حرصا على إظهار عدم رغبتهم فى السياسة، ويزعمون أنهميفعلون ذلك ليس من أجل أنفسهم ولكن من أجل الآخرين! ولا يخفى على أحد النفاق والرياء فى الخطابات الانتخابية والتضحيات الزائفة التى يتشدق بها المرشحون من أجل أصوات الناخبين. وكما أن هناك من يتاجر بالسياسة، فهناك أيضا من يرى فى العمل السياسى نوعا من البطولة والرسالة الإنسانية، ومعظم هؤلاء يكون موقعهم ضمن صفوف المعارضة وقبل وصولهم لمقاعد السلطة، وإذا ما تم ربط السياسة بالدين، فإن المسألة تتجاوز البطولة لتصبح جهادا فى سبيل الله. وفى حين أن ينكر من فى السلطة رغبته فى السياسة، وينتقد المعارض السلطة ومن فيها، ويتعالى المجاهد على متاع الدنيا، فإن معظمهم مستعد لأن يفعل اى شئ من أجل الاحتفاظ بالسلطة، أو الوصول إليها.
وعلى الجانب الآخر هناك غالبية المواطنين، وهذه الغالبية العظمى لديها مجموعة من المواقف المتنوعة من السياسية فى مقدمتها الاستقطاب والانحياز، اوالخوف من السياسية، أو النفور منها وكراهيتها، أو الاهتمام بها من باب أن السياسة تؤثر على حياتهم اليومية والمعيشية. وقد نجد حالات من الإعجاب بسياسيين أو فصيل سياسى وهو أمر مرتبط بالانحياز وربما التعصب. ولكن وبشكل عام ثمة مسافة تفضل بين المواطنين والسياسية، فمنا من يكره هذا المجال برمته حتى لو اهتم به، ومنا من يخشاه بوصفه منطقة غير آمنة وخطرة، ومنا من ينسى أو يتناسى أن هناك شئ اسمه السياسة من الأصل. ومع كل هذه المواقف، تبقى السياسة تغازل البعض، وتبقى كذلك الشر الذى لابد منه لمن سأم ألاعيبها.
وثمة لحظات تاريخية تتغير فيها المشاعر إزاء السياسة فيزداد الاهتمام بها ولحظات أخرى يزداد النفور منها. ولنأخذ مثال ما سمى بـ “الربيع العربى“، فمنذ زمن طويل كان لدينا القليل من الاهتمام والكثير من الخوف واللامبالاة إزاء السياسة. أما مزاولة السياسة فقد ظل حكرا على مجموعات منغلقة على ذاتها سواء فى السلطة أو المعارضة. وقبل موجات “الربيع العربى” انفتح المجال قليلا فزادت درجة الاهتمام ولكن على استحياء وضمن مخاطر بالطبع. ومع اندلاع “الربيع العربى“ وصل الاهتمام بالسياسة مداه وفُتحت أبوابه على مصرعيها لفترة محدودة، فدخلت جموع غفيرة لأسباب متعددة وأصبح المجال مكتظا بساكنيه. ومع ذلك، فإن هذا الاكتظاظ لا يناسبقواعد اللعبة السياسية والتى يعد الاحتكار أحد سماتها الأساسية، ومن ثم كان العنف هو النتيجة االحتمية لحالة الاكتظاظ والتدافع التى صاحبت الفعل السياسى وتحديدا بسبب وجود العديد من اللاعبين غير المنظمين فى كيانات سياسية، فضلا عن العشوائية السياسية التى كان للإعلام دورا كبيرا فى صناعتها وتوظيفها. ومع تزايد حدة العنف، تغيرت المواقف والمشاعر إزاء السياسة، فبعد أن ارتفع منحنى الاهتمام ووصل مداه، انحدر سريعا ليس فى اتجاه الخوف من السياسة ولكن فى اتجاه النفور منها بل وكراهيتها. وعلى الرغم من أن بعض عشاق السياسة استطاعوا خلال فترة الصعود المؤقت مراكمة “رأسمال سياسى” وتصوروا إمكانية استثماره على المدى الطويل، إلا أن إعادة إغلاق الأبواب واستعادة مبدأ الاحتكار، وتزايد حدة النفور من السياسة، أفقدهم ما حصول عليه من امتيازات وكرامات سياسية.
الحقيقة أن سوق السياسة الآن لا يعانى من الكساد أو الركود، بل على العكس فهو مكدسبالكثير من السلع التى بلا قيمة فعلية. فقد تبين أن الرأسمال السياسى الذى تم مراكمته خلال “الربيع العربى”، ليس له القيمة التى تصورها البعض، لقد كان أشبه بالرأسمال الريعى. وفى ظل هذا الوضع، تبرز من جديد مشكلة ما يسمى بالمشاركة السياسة للمواطنين، والجديد أن المسألة لم تعد تتعلق بكسر حاجز الخوف كما كان فى السابق، ولكن ببناء الثقة وضخ بضاعة ذات قيمة فى سوق السياسة. وباختصار، فإن سوق السياسة ليس فى حاجة إلى زبائن، وإنما إلى مصداقية، وهى مسألة ممارسة وليست كلاما مهما كان ثوريا أو أخلاقيا.