لفت نظرى مصطلح “زيرو أو صفر-أخلاق” فى أحد الكتب المعنية بقضايا الثقافة، والذى يعنى لحظة أو منطقة محايدة أخلاقياً، حيث يمكننا اتخاذ قرار أو الحكم على موقف ما بدون أحكام أخلاقية سلبية أو إيجابية. ولعل السؤال الذى تبادر إلى ذهنى يتعلق بمدى إمكانية ذلك، أى هل من الممكن أن نتعامل مع المواقف أو الأحداث بدون أحكام أخلاقية؟ وإذا كان ذلك ممكنا فى الأمور العلمية والتقنية بدرجة أو بأخرى، فهل هو ممكن بذات القدر فى الأمور الاجتماعية والحياتية؟ فقد يكون فى مقدور العالم أو المهنى تقدير أمور معينة وفق معادلات جافة وبدون تحكيم المشاعر والقيم الثقافية، فالطبيب قد يتعاطف مع المريض أو لا يتعاطف، ولكن القرارات المتعلقة بطريقة وجرعات العلاج تكون دائما وفق معايير ليس لها علاقة بالثقافة والأخلاق، بل إن عدم الخلط بين المعايير الأخلاقية والمهنية هو ذاته من أخلاقيات المهنة.
أما فى الحياة اليومية والاجتماعية والسياسية، فنحن دائما موضوعات لأحكام أخلاقية تتعلق بالصحيح والخاطئ، والمقبول وغير المقبول والطاهر والنجس، إلى غير ذلك من أحكام قيمية تتفاوت حسب الثقافة والأعراف الاجتماعية ومعتقدات الشخص أو الجماعة التى ينتمى إليها. وثمة سؤال آخر يتعلق بمنحنى الأخلاق، فلدينا دائما نوعين من تصنيف الأخلاق وفق المعايير الاجتماعية والثقافية، التصنيف الأول يعتبر الأخلاق دائما مجموعة من القيم الجيدة، وبحضورها يكون الشخص أو الجماعة لديهم أخلاق، فنقول أن هذا الشخص خلوق أو هذه الجماعة عندها أخلاق. وبهذا المعنى فإن تعبير “زيرو أخلاق” قد يعنى انعدام الأخلاق أو بمعنى آخر أن تصرفات وسلوكيات الفرد أو الجماعة سيئة بسبب غياب القيمة الإيجابية والتى هى الأخلاق؛ أما التصنيف الثانى فيضع الأخلاق ضمن منحنى مثل مقياس الحرارة، ففى الناحية الإيجابية تكون الأخلاق راقية وجيدة، وفى الناحية الأخرى تكون الأخلاق سيئة ومنحطة. وهنا تحديدا نتساءل هل منطقة زيرو-أخلاق يمكن أن تكون منطقة فاصلة على مقياس الأخلاق مثلما تكون درجة الحرارة صفر نقطة فاصلة فى مقياس الحرارة؟
أتصور أن حسابات الأخلاق فى الحالتين مسالة نسبية وتعتمد على المعايير التى نحتكم إليها لتقييم الأخلاق، فقد يرى البعض فى سلوك ما خروجا على القواعد الأخلاقية، فى حين يراه آخرون سلوكا عاديا. ولكن دائما هناك معايير عامة تحظى بدرجة من الاجماع فتتحول إلى أعراف وربما يتم حمايتها بالقانون، وقدتكون النقطة “زيرو- أخلاق” هى تلك التى تتماشى مع المعاييرالعامة المتفق عليها، فمثلا أن يكون الشخص قاتلا أو مغتصبا فغالبا ما يتم الحكم على أخلاقه بأنها سيئة أو منحطة، ولكن عندما لا يقتل الشخص أو يغتصب، فلا يمكن وصف أخلاقياته بأنها راقية أو جيدة لأنه لم يرتكب هذه الأفعال، فالمعيار العام هو ألا نقتل أو نغتصب. والعادى أيضا هو أن نحترم الآخرين، ويظل احترام الآخرين عند النقطة زيرو-أخلاق فى الأوضاع التى يكون فيها الاحترام معيارا متفق عليه من قبل الجميع. ولكن عندما تفسد قواعد اللعبة الاجتماعية ويكون عدم الاحترام هو الشائع،
وقتها تصعد القواعد العادية للاحترام أعلى من منطقة الصفر الاخلاقى وتبرز وكأنها حالة استثنائية تستحق التقدير والثناء. وبين هذا وذاك، هناك ممارسات أخلاقية إيجابية تتجاوز المعيار العادى والمتفق عليه، ويتعلق هذا بأن تفعل شئيا إيجابيا طوعا ولن تلام على عدم فعله، مثلا عندما تفسح المكان طوعا لآخرين، كأن تترك مقعدك فى مواصلات عامة لشخص آخر. ففى هذا الحالة ثمة عمل أخلاقى إضافى يرفع الشخص من درجة زيرو- أخلاق إلى درجة أرقى على المؤشر الأخلاقى.أقول هذا لأننا وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها الممارسات العادية المتعلقة باحترام الآخر أو احترام العمل أمورا قد تستحق الثناء والتقدير (أو حتى الامتعاض والتهكم قبل آخرين)، فهذا رجل خلوق لأنه لا يتحرش بالنساء، وهذا موظف محترم لأنه لا يقبل رشوة، وهذا سائق أخلاقه جيدة لأنه لا يبتز الزبائن إلخ. وكأن عدم التحرش والنزاهة والمعاملات الطبيعية ظواهر أخلاقية استثنائيةأو غير متوقعة، وفى بعض الأحيان مربكة. وفى الحقيقة فإن المسألة تتعلق بما هو أكثر من التردى فى سلوك الأفراد، لأنهاتتعلق بما هو أعمق من ذلك، اى فساد المعايير العامة التى نحتكم إليها.