يقوم الاقتصاد على عمليتين أساسيتين وهما الانتاج والاستهلاك، فنحن نذهب إلى الأسواق لشراء منتجات وسلع وربما أفكار من أجل تلبية احتياجات أساسية أو غير أساسية وهو ما يسمى “الاستهلاك“. وإذا كان بعض البشر منتجين، فإن جميع البشر مستهلكين. وإذا ما تحدثنا عن احتياجات أساسية وتحديدا المأكل والمشرب فإن جميع الكائنات تستهلك، أما ما يخص البشر فهو أنهم تفننوا فى أساليب الانتاج كما تفننوا فى أساليب الاستهلاك، وقد وصل بنا الحال أننا أصبحنا نستهلك ليس بدافع الحاجة ولكن بدافع المتعة، واكثر منذ ذلك، فثمة أعداد متزايدة من البشر باتت تستمتع بالشراء أما يسمى “متعة التسوق” حتى لو لم يتم استهلاك ما تم شراؤه. ولكن ما معنى الاستهلاك، تلك الممارسة التى تجمعنا وتفرقنا؟
ومن حيث المعنى اللغوى فإن كلمة “استهلاك”، تعنى ممارسات متعددة كـ “تناول” شئ مثل المأكولات أو المشروبات، او “استنفاذ” شئ مثل الوقود، أو حتى استنفاذ أشياء غير مادية مثل الوقت أو الأعصاب. ويتضح من المعنى اللغوى العلاقة بين كلمات مثل “يستهلك، استهلاك، ومُستهلك”، وكلمات “هلك، إهلاك، مُهلك”. فثمة دلالات سلبية نجدها فى المعنى اللغوى للكلمة.وهذا ما يوضحه لنا أحد المعاجم المعنية بمصطلحات الثقافة والمجتمع فى إطار رصد الجذر اللاتينى للكلمة والتى لا تعنى فقط استعمال أو تناول الشئ، بل كذلك إزالته وتدميره. وهكذا فإن الكلمة كان لها معنى سلبى، ولم يصبح لكلمة “استهلاك” معنى حيادى إلا مع ظهور السوق الرأسمالى حيث أصبحت معادلة “الانتاج – الاستهلاك” عملية اقتصادية تبدو طبيعية ومحايدة ترتبط بتلبية احتياجات إنسانية فى المأكل والمشرب والسكن والترفيه، إلخ. وبات المستهلك يلقى المزيد من الاهتمام، فهو كائن له حقوق “حقوق المستهلك” وتم سن القوانين وتأسيس جمعيات ومنظمات للدفاع عن حقوقه، على الأقل فى الكثير من المجتمعات المتقدمة.
ولكن هذا المعنى الحيادى لم يصمد طويلا مع تطور المجتمع الرأسمالى، فقد أصبح الاستهلاك موضع انتقادات أخلاقية واجتماعية، وفى الحقيقة أن النقد لا يتم توجيهه إلى الاستهلاك كتلبية لاحتياجات إنسانية، ولكن إلى سيطرة نوع من الثقافة تسمى “ثقافة الاستهلاك”، وزيادة الطلب على سلع ومنتجات غير أساسية أو غير ذات منفعة إن لم تكن مضرة. ويثور الكثير من الجدل الثقافى والعلمى حول ما هو أساسى وما هو مجرد كماليات، أو حول ما هو مفيد أو مضر. وفى الحقيقة أن المسألة معقد، ففى السابق كانت السيارة من الكماليات، ولكن مع مرور الوقت أصبحت من الأساسيات، فتعقد الحياة زاد من الطلب على سلع لم تكن مدرجة ضمن الضروريات. ولكن المؤكد أن البشر باتوا يستكلهون بشراهة وبما يفيض عن حاجاتهم، فجانب كبير من علميات الاستهلاك لم يعد يرتبط مباشرة بالمنفعة الاقتصادية أو المادية، بقدر ما يلبى تطلعات ثقافية لدى المستهلك. إننا لم نعد نذهب إلى محلات البقالة لنبتاع ما نحتاج إليه، بل نذهب إلى السوبر ماركت لنستمتع بشراء ما نحتاجه وما لا نحتاج إليه حيث نقع ضحية إغراءات السلع والدعاية.
وكلما باتت ثقافة الاستهلاك أكثر إبهارا، كلما كانت أكثر “إهلاكا”. إن ثقافة الاستهلاك تزيد من الاحساس بالفقر والحرمان (الفقر النسبى). وفى حين يستمتع قطاع عريض من البشر بشراهة الاستهلاك الفائض عن الحاجة، فإن هناك الملايين من البشر ممن لا يجدون قوت يومهم، ليس بسبب الندرة ولكن بسبب غياب العقلانية والعدالة. كما لا يمكن تجاهل الآثار البيئة السلبية المتربته على الاستهلاك، ليس فقط فيما يتعلق باستنفاذ الموارد، ولكن بارتباط الاستهلاك بممارسات تلوث البيئة وتهدد مستقبل الكوكب الذى نعيش عليه.
إن طبيعة السوق لم تعد ترتبط بالقدرة على الانتاج، بقدر ما باتت ترتبط بالقدرة على حث البشر على الاستهلاك، ومن هنا تنتعش ثقافة الاستهلاك ومتعة التسوق التى أصبحت، بلاشك، حالة واقعية لدى أعداد متزايدة من البشر، ولكن مما لاشك فيه أيضا أنها تعنى، فى أحد جوانبها على الأقل، أن آلة الإنتاج أصبحت تنتج أوهاما، لمستهلك يجد متعته فى شراء كل ما هو جديد فى عالم الأوهام.