هذا الموضوع من الموضوعات التي تعرضت للتحريف في هذا الزمان من بعض المعاصرين تارة باسم الاجتهاد والتجديد وتارة بدعوي التسامح الديني فنقضوا, بتحريفاتهم الأحكام الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
وبداية ينبغي أن يعرف الطالب معني أهل الذمة,وما جري عليه العمل بشأنهم في ديار الإسلام عبر القرون الخالية حتي تم إسقاط الأحكام الخاصة بهم مع إحلال القوانين الوضعية محل أحكام الشريعة.
*أولا: تعريف أهل الذمة.
أما عن معني أهل الذمة,فقد قال ابن القيم رحمه الله : الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد.وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة ,وأهل هدنة,وأهل أمان,وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابا, فقالوا :باب الهدنة ,باب الأمان ,باب عقد الذمة.ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل,وكذلك لفظ الصلح
ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية ,وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة,وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين علي أن يجري عليهم حكم الله ورسوله.إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين علي أن يكونوا في دارهم, سواء كان الصلح علي مال أو غير مال,لاتجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري علي أهل الذمة,لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين,وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة.
وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها ,وهؤلاء أربعة أقسام:رسل,تجار,مستجيرون حتي يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلي بلادهم,وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها.وحكم هؤلاء ألا يجاهدوا ولا يقتلوا,ولا تؤخذ منهم الجزية,وأن يعرض علي المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك,وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به.
* ثانيا: أحكام أهل الذمة في دار الإسلام.
وأما ما جري عليه العمل بشأن أهل الذمة في ديار الإسلام فهو إلزامهم بدفع الجزية وهي مبلغ من المال يدفعه الرجال البالغون منهم سنويا وجريان أحكام الشريعة عليهم وإلزامهم بالشروط العمرية أو العهد العمري,وذلك مقابل إقامتهم في دار الإسلام مع أمنهم علي أنفسهم وأموالهم.
وقد وردت الشروط العمرية في معظم كتب الفقه المبسوطة,وننقل هنا ما قال ابن القيم رحمه الله :قال عبد الله بن الإمام أحمد:حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسي بن خالد قال :حدثني عمر أبو اليمان وأبو المغيرة قالا:أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا:كتب أهل الجزيرة إلي عبد الرحمن بن غنم: إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا علي أنا شرطنا لك علي أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة,ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب,ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ماكان منها في خطط المسلمين,وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار,وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل.ولا نؤدي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وألا نكتم غشا للمسلمين وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا,ولا نرفع أصواتا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وألا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين وألا نخرج باعرثا ــ قال : والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحي والفطر ــ ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا نجاوزهم بالخنازير ولا ببيع الخمور ولا نظهر شركا ,ولا نرغب في ديننا ,ولا ندعو إليه أحدا ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين,وألا نمنع أحدا من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ,ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم, وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نوصينا ,ونشد الزنانير علي أوساطنا ,ولا ننقش خواتمنا بالعربية ,ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله,ولا نتقلد السيوف,وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس ولا نطلع عليهم في منازهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلي المسلم أمر التجارة,وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد.ضمنا لك ذلك علي أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا, وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا علي أنفسنا ,وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا,وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه,فكتب إليه عمر أن أمض لهم ماسألوا الحق فيهم حرفين اشترطهما عليهم مع ماشرطوا علي أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا ومن ضرب مسلما فقد خلع عهدهفأنفذ عبد الرحم بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام علي هذا الشرط.
قال ابن القيم وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها ,فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم,واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية علي ألسنتهم وفي كتبهم,وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها أحكام أهل الذمة لابن القيم جــ2 صــ657 ــــ 664ط دار العلم للملايين 1983م.
وقد اشتملت الشروط العمرية علي عدة مسائل
ـــ منها ما يتعلق بأحكام البيع والكنائس والصوامع وما يتعلق بها.
ـــ ومنها ما يتعلق بإخفاء شعار دينهم.
ـــ ومنها ما يتعلق بإخفاء منكرات دينهم.
ومنها ما يتعلق بتميزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمركب.
ــ ومنها ما يتعلق بالتزامهم ترك كل ما يضر الإسلام والمسلمين.
ــ ومنها ما يتعلق بأحكام ضيافتهم للمارة.
ــ ومنها ما يتعلق بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالي.
نقلت هذا بتصرف من أحكام أهل الذمة لابن القيم 665/2 ــ 666,ومن اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ,ط المدني صــ 121 ــ 123
وهناك أمران أساسيان لا تنعقد الذمة بدونهما لم يذكرا في الشروط العمرية,وهما أداء الجزية وجريان أحكام الإسلام عليهم.قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين: أحدهما: أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول,والثاني :التزام أحكام الإسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم ,لقول الله تعالي حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون المغني والشرح الكبير 10/.572والصغار هو التزامهم لجريان أحكام الشريعة الإسلامية عليهم ,ذكره ابن القيم وغيره أحكام أهل الذمة 1/.24
وقد ذكر ابن تيمية الشروط العمرية بإسناد صحيح.أنظر الصارم المسلول صــ208,واقتضاء الصراط المستقيم صــ .120وقال ابن تيمية وهذه الشروط أشهر شئ في كتب العلم والفقه,وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة منها اقتضاء الصراط المستقيم صــ 121 وقال ابن تيمية أيضا وهذه الشروط مازال يجددها عليهم من وفقه الله تعالي من ولاة أمور المسلمين مجموع الفتاوي 28/.654
وقد ظل العمل جاريا في بلاد المسلمين وفق هذه الشروط عبر القرون,وأورد المؤرخون في كتبهم تجديد السلاطين المسلمين لهذه الشروط العمرية علي أهل الذمة,وأنظر علي سبيل المثال وثيقة تجديد السلطان الناصر محمد بن قلاوون للعهد العمري علي أهل الذمة عام 700 هــ أوردها القلقشندي في صبح الأعشي 378/13,.387
ثالثا :التغيير الذي طرأ علي أحكام أهل الذمة في الدول العلمانية:
استمر العمل علي ذلك حتي أواخر القرن الثاني عشر الهجري ــ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ــ حين تدهورت أحوال الدولة العثمانية وولايتها المختلفة واتجهت نحو العلمانية بصورها المختلفة من تحكيم القوانين الوضعية بدلا من أحكام الشريعة,واقتباس النظام الديموقراطي الغربي الذي يمنح السيادة للشعب كسلطة عليا بدلا من سيادة حكم الله تعالي في الإسلام,وكان من آثار العلمنة بناء الدولة علي أساس المواطنة والتي تعني التسوية بين جميع السكان في الحقوق والواجبات دون النظر إلي هويتهم الدينية بدلا من اعتماد الهوية الدينية التي تقسم السكان إلي مسلمين وأهل الذمة.وكان هذا هو نهاية العمل بأحكام أهل الذمة وسقط هذا المصطلح من الدساتير العلمانية التي تبنت فكرة المواطنة في سائر بلدان المسلمين اليوم ,حتي أصبح المسلم من غير أهلها يعامل كغريب وأجنبي عنها, في حين يعامل الكافر من أهلها كمواطن له سائر الحقوق.
تقول إحدي الباحثات د. سميرة بحر ــ في وصف تطور الأحوال في بلد كمصر ــ ومضت الحكومات الإسلامية المتعاقبة في معاملة لا توصف في جملتها بأنها سيئة باستثناء أمرين : أولهما :دفع الجزية التي كانت مظهرا من مظاهر الدولة الثيوقراطية ويلحق بذلك عدم السماح لهم بحمل السلاح ,وعدم قبول شهادتهم ضد المسلمين في المحاكم..إلخ ,وثانيهما:هدم الكنائس التي كان العامة وطغام الناس يفعلون بها ذلك في ثوراتهم,ثم لا يلبث النصاري أن يؤذن لهم في إعادة بنائها بأمر الحاكم المسلم.وجاء في العهد المنسوب إلي الخليفة عمر بن الخطاب وليس لكم أن تظهروا الصليب في شئ من أمصار المسلمين ولا تبنوا كنيسة ولا موضع مجتمع لصلاتهم,لا تضربوا بناقوس ــ إلي أن قالت : ــ استمر تقدم الأقباط في الحياة العامة الحديثة مع إخوانهم المسلمين خاصة وأن الوالي سعيد ــ حاكم مصر ــ أدخلهم في صلب الدولة ,لأنه كان يريد علي الأخص إخراج الأتراك من الوظائف المدنية والحربية,فبدأ يعتمد بدرجة أكبر علي المصريين ويفسح لهم المجال واسعا في وظائف الدولة والجيش ,واقتضي هذا النزوع المصري منه أن يزيل آخر عقبات الاندماج بين عناصر المصريين بإصدار قرار قبول المسيحيين في الجيش وتطبيق الخدمة العسكرية عليهم فنص الأمر العالي الصادر في جمادي الأولي 1272هــ علي أن أبناء الأعيان القبط سوف يدعون إلي حمل السلاح أسوة بأبناء المسلمين وذلك مراعاة لمبدأ المساواة وكان قد أصدر أمره قبل ذلك بإلغاء الجزية المفروضة علي أهل الذمة في ديسمبر 1855م ــ إلي أن قالت ـــ وفي عهد الخديوي إسماعيل أيضا تم تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم كما ألمحنا.وهو أمر لا يقل أهمية عن التمثيل بالمجالس التشريعية ,وتلازم هذا التطبيق مع إلغاء المجالس القضائية القديمة التي كانت تقتصر علي القضاة من المسلمين وحدهم مه إحلال محاكم أهلية محلها.فلزم تعيين القضاة بصرف النظر عن الدين ليتكون قضاء يخضع له المصريون بصرف النظر عن الدين أيضا,وكانت دلالة الأمرين السابقين معا أي تقبل المدارس الأميرية للمصريين جميعا وتعيين قضاة من القبط في المحاكم هو البدء في بناء مؤسسات الدولة علي قاعدة المواطنة وعلي الأساس المدني العلماني أهــ .من كتاب الأقباط في الحياة السياسية المصرية للدكتورة سميرة بحر,ط مكتبة الأنجلو المصرية ,ط 1984,2,صــ35 ــ .38وقد أدرجت في السياق كلمة ــ حاكم مصر ــ وهذا الكلام يهمنا منه السرد التاريخي ,وإلا فإن المؤلفة قالت كلاما مكفرا وهو وصفها الجزية بأنها أمر سئ وهي أمر الله تعالي في قوله حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون التوبة .29وإن كنت لا أدري أمنتسبة للإسلام هي أم نصرانية؟ كذلك ماذكرته من إعادة بناء الكنائس هو أمر غير مشروع وتهاون من الحكام المسلمين وتفصيله بمجموع فتاوي ابن تيمية ,جــ 28 صــ 632 وما بعدها.
وبإسقاط الجزية عن أهل الكتاب وبمساواتهم بالمسلمين بما يعني مخالفة الشروط العمرية يكون عهدهم قد انتقض وعادوا فارا محاربين قال الشوكاني رحمه الله ثبوت الذمة لهم مشروط بتسليم الجزية والتزام ما ألزمهم به المسلمون من الشروط فإذا لم يحصل الوفاء بما شرط عليهم عادوا إلي ماكانوا عليه من إباحة الدماء والأموال,وهذا معلوم ليس فيه خلاف وفي آخر العهد العمري: فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل العناد والشقاق السيل الجرار للشوكاني 4/.574وقد سبق كلام ابن قدامة في نفس المعني.
وسواء كان انتقاض عهد الذمة من جهتهم أو من جهة الحاكم الكافر كما صنع الخديوي سعيد ومن تلاه في حكم مصر فإن هذا لا يؤثر في النتيجة فالكافر لا يعصم نفسه وماله من المسلمين إلا أمان معتبر من جهتهم فإذا عدم الأمان سقطت عصمته وهذا مثال لما وقع بشتي بلدان المسلمين.
وأتي البعض بشبهه فقالوا: وما ذنبهم ــ أي أهل الكتاب ـــ إذ كان انعدام عقد الذمة ليس من جهة امتناعهم عنه بل من جهة غياب الدولة الإسلامية,ولعلها لو وجدت لدخلوا في الذمة؟
والجواب : أن هذه شبهة فاسدة لأنها من الاحتجاج الفاسد بالقدر,فقيام دولة الإسلام أو ذهابها شئ قدره الله,فإن وجدت وجدت معها أحكام معينة هذا منها, وإن ذهبت زالت هذه الأحكام.
وأضيف فأقول إن إسقاط أحكام أهل الذمة في بلد كمصر قد قوبل بارتياح وترحيب كبيرين من النصاري ,وتبع ذلك مقاومتهم لأي توجه إسلامي للحكومة العلمانية بمصر بداية من مهاجمتهم لفكرة الجامعة الإسلامية التي نادي بها جمال الدين الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وانتهاء باعتراضهم علي تطبيق أحكام الشريعة عليهم إذا كان في نية الحكومة المصرية العمل بها أو ببعضها ,ومن هذا الباب تقدم الأزهر ووزارة العدل بمشروع قانون الحدود إلي مجلس الشعب لإقراره عام 1977م وتجمد المشروع في خزانة مجلس الشعب,ولكن هذه الخطوة قوبلت برد فعل عاصف من جهة النصاري فعقدوا مؤتمرهم بالإسكندرية في 1977/1/17م وحضره كبيرهم شنودة وسائر ممثلي الأقباط وأصدر المؤتمر بيانا طالب فيه بإلغاء مشروع قانون الردة واستبعاد التفكير في تطبيق الشريعة الإسلامية علي غير المسلمين .أنظر المرجع السابق لسميرة بحر, صــ 156 ,وكتاب المسألة الطائفية في مصر ط دار الطليعة 1980 م ,صــ 36 ــ 37 وطلبهم الأخير هذا يعتبر نقصا جماعيا لعقد الذمة لو افترضنا وجوده وسريان مفعوله حينئذ.
وبعد: فقد كان هذا عرضا موجزا لما كان عليه الحال وما آل إليه بشأن أهل الكتاب في بلاد المسلمين ومع أنه لا يوجد اليوم علي ظهر الأرض من يسمون بأهل الذمة, إلا أن هذا لا يمنع من دراسة الموضوع ومعرفة أحكامه خاصة بالنسبة لطلاب العلم المتخصصين, وليدركوا التحريفات التي أراد بعض العصريين إدخالها عليه.
وعلي هذا فسوف أذكر فيما يلي المراجع الأساسية لدراسة هذا الموضوع, ثم أذكر بعض الكتب المعاصرة التي اشتملت علي تحريفات في هذا الموضوع وذلك للتحذير منها.
*رابعا: المراجع الأساسية لدراسة هذا الموضوع:
1ــ كتاب الجزية بكتاب المغني لابن قدامة,وقد ورد في آخر كتاب الجهاد, ,وهو في المغني مع الشرح الكبير في جــ 10 من صــ 567 إلي آخره.
2ــ كتاب الجزية بصحيح البخاري مع شرحه, وهو في فتح الباري 257/6 ــ .285
3ــ كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم في مجلدين طبع دار العلم للملايين وهو أوسع مرجع في هذا الموضوع.وله مقدمة لمحققه الدكتور صبحي الصالح ولآخر اسمه د. محمد حميد الدين ,كلاهما أتي بأخطاء فاحشة سأعرضها ضمن نقد كتابات المعاصرين إن شاء الله.
4ــ أبواب الجزية في كتب السياسة الشرعية كالأحكام السلطانية للماوردي والأحكام السلطانية لأبي يعلي ,وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين بن جماعة, وهذا الكتاب الأخير قد نبهت علي بعض أخطاء محققة.د. فؤاد عبد المنعم من قبل عند الكلام في كتب السياسة الشرعية فلتراجع هناك.
5ــ كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية تناول فيه بعض أحكام أهل الذمة.
6ــ القسم الأخير بالمجلد الثامن والعشرين من مجموع فتاوي ابن تيمية, وقد تكلم فيه عن أحكام بناء الكنائس وهدمها وأحكام الوقف عليها في دار الإسلام,
راجع جــ 28 صــ 601 ــ 668 من الرسالة القبرصية إلي آخر المجلد.
7ــ كتاب الصارم المسلول علي شاتم الرسول لابن تيمية وقد اشتمل علي بعض أحكام أهل الذمة.
فهذه أهم مراجع هذا الموضوع أحكام أهل الذمة, والتي بدراستها يتمكن الطالب من تمييز الحق من الباطل في هذا الموضوع كما يتمكن من نقد الكتب المعاصرة التي تناولته فيميز ما فيها من أخطاء.
* خامسا أخطاءالمعاصرين في هذا الموضوع:
ارتكزت أخطاء المعاصرين التي زعموا إنها اجتهادات تتناسب مع العصر علي أمرين التشكيك في صحة الشروط العمرية والقول بإنها وإن صحت فهي غير ملزمة للمعاصرين لأنها مجرد اجتهاد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.وبهذين الأمرين تحللوا من الشروط العمرية وأطلقوا لأنفسهم حرية مازعمووا أنه اجتهاد.
فمن التشكيك في صحة نسبة هذه الشروط إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماذكره د. صبحي الصالح في مقدمته لكتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم صــ 14 ـــ .16
ومن القول بإنها غير ملزمة ماقال أحد المؤلفين وأيا ما كان القول في صحة نسبة الشروط المصطلح علي تسميتها بالمستحبة إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنها علي أي حال ليست بملزمة للمسلمين لا نجد علي إلزامها دليلا من الكتاب أو دليلا من السنة,وإن كنا لا نجد فيهما كذلك دليلا علي منع أو تحريم من كتاب فقه الجاهلية المعاصرة لعبد الجواد ياسين صــ 99 وأقول أرأيتم مثل هذه الجرأة علي الفتوي؟
أما عن صحة نسبة هذه الشروط إلي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فهي متواترة يشهد بها المسلمون والكفار جميعا جيلا بعد جيل ,ولا يخلو منها كتاب من كتب الفقه وجري عليها العمل في ديار الإسلام مدة اثني عشر قرنا من الزمان وقد ذكر ابن تيمية ــ فيما نقلته عنه من قبل ـــ أنها مروية بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك بكتابيه الصارم المسلول صــ 208 ,واقتضاء الصراط المستقيم صــ 120 ــ .121
أما من جهة الإلزام :فهي ملزمة لجميع المسلمين يجب عليهم العمل بها في مختلف العصور ,ويرجع وجوبها إلي سببين:
الأول: أنها سنة خليفة راشد يجب العمل بها لقوله صلي الله عليه وسلم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
والثاني: إجماع الصحابة علي العمل بهذه الشروط في حياة عمر ومن بعده.إذ لم يخالفه في ذلك أحد ,وإجماعهم حجة ملزمة لجميع المسلمين إلي يوم القيامة.
وقد ذكر ابن تيمية هذين السببين في قوله في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها علي أهل الذمة لما قدم الشام, وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وعليه العمل عند أئمة المسلمين لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها, وعضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة وقوله صلي الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي:أبي بكر وعمر لأن هذا صار إجماعا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم,الذين لا يجتمعون علي ضلالة علي مانقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم. مجموع الفتاوي 28/.651
ومع القول بإلزام هذه الشروط ينبغي التنبيه علي أن العمل بها مشروط بالقدرة والتمكين أما مع العجز ــ كما في حالة ضعف المسلمين أو في حالة نشوء دولة إسلامية ضعيفة ــ فلا يجب علي المسلمين إلزام أهل الكتاب بهذه الشروط.
وفي نفس الوقت لا يجوز وضع تشريع يخالف الشريعة بشأنهم كالقول باعتماد المواطنة كمبدأ ونحو ذلك لأن واضع هذه التشريعات يكون قد دخل في دائرة الكفر بتشريعه ما يضاد أحكام الله. قال ابن القيم رحمه الله ومن تأمل سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس علي الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر, وعلم أن كثيرا من هذه الأحكام التي ذكرنا من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة,ولهذا لم يغيرهم النبي صلي الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه, وغيرهم عمر رضي الله عنه أحكام أهل الذمة 770/2 وبمعناه في 756/2 وفي 395/1 وفي هذا أيضا قال ابن تيمية رحمه الله وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم فلما كما الدين وظهر وعلا شرع ذلك اقتضاء الصراط المستقيم صــ 177,ط المدني.
واتخذ بعض المعاصرين حجة أخري للتحلل من الشروط العمرية وغيرها من أحكام أهل الذمة ,وهي القول بسماحة الإسلام وحضه علي البر إلي المخالفين في العقيدة الذين لم يقاتلونا في الدين وهذه كلمة حق أريد بها باطل إذا إريد تعميمها ,فسماحة الإسلام ليست مطلقة ولكنها مقيدة بضوابط شرعية وإلا فإن الله أمرنا ببغض الكافرين والغلظة عليهم كما أمرنا بجهادهم.أما أهل الكتاب فلهم أحكام خاصة نص عليها الكتاب والسنة ولا يجوز أن تعارض بهذه العموميات ,وإلا صار الأمر كمن يقال له إن لبس الذهب والحرير حرام علي الرجال فيعارضك بقوله تعالي قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادهالأعراف هذه معارضة باطلة فلا يجوز معارضة الخاص بالعام بل يعمل بكل نص في موضعه.والقائلون بسماحه الإسلام في هذا الشأن متأثرون ببدعة التسامح الديني والتقارب بين الأديان التي اخترعها الكافرون لتضليل المسلمين وصرفهم عن جهادهم كما قال تعالي ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم,وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون آل عمران 69 ويساعدهم في ذلك بعض المنافقين من المنتسبين إلي الإسلام بعقد المؤتمرات والندوات وترويج المطبوعات الداعية لتسامح الأديان لنزع الحمية الدينية من نفوس المسلمين لتظل الأوضاع علي ما هي عليه الآن من استعلاء الكافرين علي المسلمين إذ يخشي الكفار من حدوث طوفان إسلامي يجتاحهم كما صنع المسلمون في العصور الزاهرة التي يسميها العلمانيون الكافرون بالعصور المظلمة وكفي بالإسلام والمسلمين سماحة أن سمحوا لأهل الكتاب والمجوس أن يقيموا بينهم بكفرهم يؤدون شعائرهم آمنين علي أنفسهم وأموالهم في ديار الإسلام بموجب عقد الذمة,وتدرك فرط هذه السماحة إذا علمت ما صنعه الصليبيون في حروبهم مع المسلمين بساحل الشام وفي الأندلس قديما, وفي صبرا وشاتيلا بلبنان وفي البوسنة والهرسك حديثا وانقل لك شهادة الصليبيين أنفسهم في ذلك,قال أحدهم ــ جيبون ــ إن الصليبيين خدام الرب يوم استولوا علي بيت المقدس في 1099/7/15م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء, في مذبحة استمرت ثلاثة أيام بلياليها ولم تنته إلا لما أعياهم الإجهاد من القتل فقد حطموا رؤوس الصبيان علي الجدران وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل,وشووا الرجال والنساء بالنار وبقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب…ثم يقول :كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلي الله طالبين البركة والغفران نقلا عن العلاقات الدولية في الإسلام لكامل سلامة الدقس صــ 333 ومثال آخر ما فعله الصليبيون في الأندلس عندما تغلبوا علي المسلمين,فقد قال أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو المدعو جوستاف لوبونقال لما أجلي العرب سنة 1630م اتخذت جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم وكان مجموع من قتل إلي ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس في حين أن العرب لما فتحوا إسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاساتهم غير مكلفين إلا بدفع الجزية وهي بمقدار ما كانوا يبذلونه لملوك القوط وقد بلغ من تسامح العرب طول حكمهم في أسبانيا مبلغا قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام من كتاب حضارة العرب لجوستاف لوبون صــ 279 ترجمة عادل زعيتر وهذان المثالان نقلتهما من كتاب الموالاة والمعاداة لمحماس الجعلود 597/2 ــ 598 هذا في الماضي أما في الحاضر فالأمثلة كثيرة يكفي منها مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م إذ حاصر اليهود هذين المعسكرين للفلسطينيين وسمحوا لنصاري حزب الكتائب اللبناني بتدبير المذبحة فاغتصبوا النساء ثم قتلوا الجميع من الرجال والنساء والأطفال ومثلوا بجثثهم.أما ما يجري في البوسنة فأمره معلوم للجميع فقد قتل الصرب النصاري آلاف المسلمين واغتصبوا ما يزيد علي عشرين ألف امرأة مسلمة واحتجزوهن حتي يلدن أطفالا صربيين في حملة لتنفيذ ما أسموه بالتطهير العرقي لتغيير الخارطة السكانية في البوسنة ,وقع هذا وسط سكوت العالم كفارا ومسلمين فهل هذا هو التسامح الديني وتقارب الأديان؟
فهذه هي الذرائع التي توصل بها بعض المعاصرين لإدخال تحريفاتهم علي أحكام أهل الذمة الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع تحللهم من الشروط العمرية بالتشكيك في صحتها وبإدعاء عدم إلزامها مع القول بالتسامح الديني.
أما أهم أخطاء المعاصرين في هذا الموضوع ,فمنها.
1ــ القول بإن أهل الكتاب في بلاد المسلمين مازالوا أهل ذمة إلي اليوم ,وهذا قول ساقط, وقد بينت ما كان عليه العمل وما صار إليه بشأنهم وأصحاب هذا القول تكذبهم الدساتير العلمانية لهذه الدول فقد اعتمدت المواطنة كأساس للتسوية بين السكان دون النظر إلي دينهم ,ولم تشر إلي مصطلح أهل الذمة لا من قريب ولا من بعيد.
2ــ القول بإسقاط العمل بحكم أهل الذمة في دار الإسلام,والدعوة إلي اعتماد مبدأ المواطنة كبديل وهو ما قامت عليه الدساتير العلمانية الكافرة وهذا القول يروج له بعض من يسمون بالمفكرين الإسلاميين في هذا الزمان,ولا شك في كفر من قال بهذا القول لإنكاره المعلوم من الدين بالضرورة الثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
3ـ القول بجواز تولي الذميين للوظائف العامة في دار الإسلام, وهو قول فاسد ليس لصاحبه مستند إلا ماذكره الماوردي في أحكامه السلطانية برأيه,وقد ذكرت من قبل كيف شنع عليه الجويني في الغياثي بسبب هذا وقد استوفي ابن القيم الرد علي هذا القول في كتابه أحكام أهل الذمة جــ 1 صــ 208 244 ,ط دار العلم للملايين 1983م.
4ــ القول بجواز إسقاط الجزية عن أهل الذمة للمصلحة أو إذا طبق عليهم نظام التجنيد الإجباري ,وهذا خطأ, فالجزية لا تسقط إلا لعجز من جهة المسلمين عن فرضها علي أهل الذمة, أو لعجز من جانب بعض الذميين عن أدائها .وتفصيل ذلك في المراجع الأساسية التي ذكرتها من قبل.
5ــ القول بإطلاق الحرية للذميين للدعوة لدينهم وبناء الكنائس في دار الإسلام حتي لا تضيق الدول النصرانية علي المسلمين المقيمين بها,وهذا قول خطأ مبني علي خطأ لأنه إذا وجدت دار إسلام في الدنيا فإنه يجب علي المسمين الهجرة إليها لنصرة أهلها وحتي لا يفتنوا في دينهم بالإقامة بين الكفار في بلادهم,كيف وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركين الحديث؟ وكيف وقد نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن حمل المصحف عند السفر لبلاد الكفار؟ فذهاب المسلم إلي بلاد الكفار وإقامته بها لا تجوز إلا للضرورة ليست هي الأصل وليست من المباحثات كما تساهل فيها الناس في هذه الأزمان .فليست هذه من الأعذار التي تسقط من أجلها الأحكام الثابتة الخاصة ببناء الكنائس في دار الإسلام.
6ــ القول بعدم وجوب إلزام الذميين بالغيار أي بمخالفة المسلمين في الشعور واللباس والمركب وذلك في دار الإسلام وأن هذا وإن ورد في الشروط العمرية فهو اجتهاد غير ملزم من عمر رضي الله عنه, وأنه يمكن إلغاء هذا الشرط لاختلاف الزمان.وهذا خطأ فقد ذكرت من قبل أن الشروط العمرية ملزم لعموم المسلمين عند القدرة,ولا يجوز اعتبار حالة العجز هي الأصل,وقد قال ابن القيم رحمه الله فلما فتح الله علي المسلمين أمصار الكفار وملكهم ديارهم وأموالهم وصاروا تحت القهر والذل وجرت عليهم أحكام الإسلام ألزمهم الخليفة الراشد والإمام العدل الذي ضرب الله الحق علي لسانه وقلبه وأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم باتباع سنته ــ عمر بن الخطاب ــ بالغيار,ووافقه عليه جميع الصحابة واتبعه الأئمة والخلفاء بعده,وإنما قصر في هذا من الملوك من قلت رغبته في نصر الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الكفر وأهله,وقد اتفق علماء المسلمين علي وجوب إلزامهم بالغيار وأنهم يمنعون من التشبه بالمسلمين في زيهم أحكام أهل الذمة 2/.756
هذا وقد بلغت الجرأة بأحد المعاصرين أن قال لم تبق إلا مسألة اللباس الذي يميز الذمي عن المسلم وأبادر إلي التأكيد بأن القرآن لم يمس هذا, وأن الحديث النبوي لم يعرض له فليس له إذا أساس ديني بل أساسه عندي اجتماعي أو سياسي أو زماني مؤقت فقد وقع في بعض العصور المتأخرة ثم كاد يصبح بعدها تقليدا أهــ وقائل هذا اسمه الدكتور محمد حميد الله شارك د. صبحي الصالح في وضع مقدمة كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم وسماه صبحي الصالح بالعلامة الأستاذ الدكتور محمد حميد الله وكلامه السابق بمقدمة الكتاب في صــ 94 ويبدو أنه لم يقرأ شيئا من الكتاب الذي قدم له فالغيار معمول به من عصر الصحابة لا في العصور المتأخرة كما قال والغيار أساسه ديني سنه خليفة راشد يجب اتباع سنته وأجمع عليه الصحابة وإجماعهم حجة والعمل بالإجماع ليس تقليدا بل اتباع كما هو مقرر في أصول الفقه انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص246 وأضيف هنا أن العمل بالغيار ليس اجتهادا قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه برأيه بل دلت عليه سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي أمر بمخالفة أهل الكتاب والمشركين في شتي الأمور خاصة في الهدي الظاهر وقد ذكر ابن تيميه جملة من الأحاديث الدالة علي ذلك في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم,وذكر أحمد بن الصديق الغماري جملة من هذه الأحاديث في كتابه الاستنفار لغزو التشبه بالكفار وقد ذكر ابن تيمية وجو الحكمة في الأمر بمخالفتهم وكيف أن التشبه بهم في الظاهر يفضي إلي مشابهتهم في الباطن كما ذكر ابن القيم الحمة في إلزامهم بالغيار في عقد الذمة وأنها حتي لا يعامل الكافر معاملة المسلم في دار الإسلام ,وذلك في الباب الخاص بسد الذرائع من كتابه إعلام الموقعين وهذا كله في بيان أن إلزام الذميين بالغيار ليس رأيا قابلا للأخذ والرد, وإنما هو من الأحكام الثابتة في الشريعة وقد دلت عليه عشرات الأحاديث من السنة المشرفة, وتطبيقه منوط بالقدرة كما سبق التنبيه.
7ــ ومن الأخطاء الفاحشة ما ذكره الأستاذ المشار إليه أعلاه د. محمد حميد الله في مقدمة أحكام أهل الذمة صــ 90 حيث قال إن النبي صلي الله عليه وسلم رجم يهوديين وقتل يهوديا عملا بأحكام التوراة ثم قال ما نصه فلقاضي المسلمين إذا أن يطبق علي أهل الذمة إذا جاءوه قانونهم لا قانون الإسلام أ.هــ .أما قوله إن النبي صلي الله عليه وسلم حكم بينهم بالتوراة, فقد قال ابن حزم إن من قال إن النبي صلي الله عليه وسلم حكم بين اليهود بحكم التوراة المنسوخة فهو مرتد, أنظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/.104وأقول :سبب الردة هنا هو مخالفة هذا القول للنصوص الدالة علي أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يحكم إلا بشريعة الإسلام.وأن القرآن ناسخ لما قبله من الشرائع قال تعالي وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب وومهيمنا عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله المائدة .48ولا أقول إن هذا الكاتب مرتد ولكنه أخطأ خطأ فاحشا.ودخلت عليه الشبهة من أن إحدي روايات حديث رجم اليهوديين ورد فيها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما الحديث رواه أحمد وأبو داود وليس معناه أنه حكم بالتوراة نفسها بل حكم بمثل ما ورد بها في حكم هذه المسألة وإلا فقد قال صلي الله عليه وسلم لو كان موسي حيا ماوسعه إلا اتباعي الحديث رواه أحمد والدارمي,فكيف يتبع النبي صلي الله عليه وسلم كتاب موسي؟ ومصداق هذا الحديث الأخير من كتاب الله قوله تعالي وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم علي ذلكم إصري, قالوا زقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين آل عمران .81 ولهذا فبعدما ذكر ابن كثير رواية فإني أحكم بما في التوراة قال رحمه الله فهذه الأحاديث دالة علي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة,وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة,ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم علي ما بأيديهم مما تواطؤا علي كتمانه تفسير ابن كثير 59/2,وقد قال ابن حجر إن رواية فإني أحكم بما في التوراة في سندها رجل مبهم أي لا يحتج بها,وأنها إذا ثبتت فتأويلها هنده هو كما نقلناه عن ابن كثير هذا معني كلام ابن حجر فتح الباري 170/12 ــ 171 وقال ابن تيمية رحمه الله وهو صلي الله عليه وسلم لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه ,كما قال وأن أحكم بينهم بما أنزل الله مجموع الفتاوي 111/4 وأما قول الأستاذ محمد حميد الله فلقاضي المسلمين إذا يطبق علي أهل الذمة إذا جاءوه قانونهم لا قانون الإسلام فقول مخالف للكتاب والسنة والإجماع بناه علي قوله إن النبي صلي الله عليه وسلم حكم بينهم بحكم التوراة وهو قول باطل كما سبق بيانه ,وقد قال تعالي وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم المائدة 49 وقانونهم المبدل المحرف هو من أهوائهم وقد ذكرت في أول هذا الموضوع الإجماع علي أن عقد الذمة لا ينعقد إلا بشرطين : أداء الجزية والتزامهم جريان أحكام الإسلام عليهم.
فهذه بعض الأخطاء الواردة في كتابات المعاصرين في هذا الموضوع,أردت التنبيه عليها ليكون الطالب علي بينة منها ,ومن اليسير علي الطالب أن يدرك هذه الأخطاء وغيرها إذا بدأ دراسته لهذا الموضوع بالمراجع الأساسية التي ذكرتها أولا,أما إذا بدأ بقراءة كتابات المعاصرين فهنا الخطر إذ قد لا يتبين هذه الأخطاء بل قد يظنها الحق,والأسوأ من ذلك ما قد يعلق بقلب الطالب من التشكيك في الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية بدعاوي هي أو هي من خيوط العنكبوت.
ومن كتابات المعاصرين التي اشتملت علي هذه الأخطاء.
1ــ كتاب غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ليوسف القرضاوي.
2ــ كتاب حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية لأبي الأعلي المودودي.
3ــ كتاب حكم إحداث الكنائس والبيع والصلوات في بلاد المسلمين لعبد الله زيد آل محمود القاضي بالمحاكم الشرعية بقطر.
4ــ كتاب أحكام الذميين والمستأمنين لعبد الكريم زيدان,وهذا الكتاب قد اشتمل علي أخطاء جسيمة قالها المؤلف برأيه بغير مستند من الشريعة.واعتبر المؤلف أن الدول الكافرة الحاكمة بغير الشريعة دول إسلامية وأن النصوص المتعلقة بالأديان في دساتيرها تتفق مع آرائه التي اعتبرها اجتهادات شرعية, مع أن هذه الدساتير علمانية محضة. وادعي المؤلف أنه لم يكتب كتاب مبسوط في هذا الموضوع قبل كتابه هذا, وهذا يدل علي أنه لم يطلع علي كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم قبل أن يكتب كتابه الذي ليته ما كتبه,وهكذا ذكر د. صبحي الصالح محقق كتاب أحكام أهل الذمة في مقدمته أن الأستاذ عبد الكريم زيدان لم يطلع علي كتاب ابن القيم,وهذا عيب كبير أن يكتب كاتب في موضوع قبل مطالعة مراجعة الأساسية ولعله لو فعل لما وقع فيما وقع فيه من مخالفات جسيمة .وكتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم فيه الحق والصواب وفيه غنية عن الكتب المعاصرة التي اختلط فيها الحق بالباطل.
وهذا آخر ما أذكره في موضوع أحكام أهل الذمة وبالله تعالي التوفيق.