– أليست الأضرحة والموالد ظاهرة مصرية ولم يعرفها العرب؟
– لماذا منح شعبنا صفات إيزيس للسيدة زينب؟
في شهر أغسطس من كل عام يحتفل أهالي قرية (ميت دميس) مركز أجا بالدقهلية بذكرى ميلاد محمد بن أبى بكر(والى مصر في عهد على بن أبى طالب) وعلى بعد عدة أمتار من ضريحه يوجد دير الشهيد مار جرجس الذي يـُـحتفل بمولده في نفس الشهر(أهرام12/8/2016).
إنّ ظاهرة الموالد المصرية لها دلالات مهمة في خصوصية الثقافة القومية المصرية :
أولًا: أنها توحـّـد بين أبناء شعبنا ، ولعلّ أدق دليل على ذلك حالة (الولع) الشديد بالموالد لدى المسيحيين والمسلمين، بل تواجدهم (المُـتبادل) حيث يذهب المسلمون إلى موالد المسيحيين ويذهب المسيحيون إلى موالد المسلمين.
ثانيًا: أنها كرّستْ للتعددية حيث يذهب أبناء طنطا لمولد الحسين في القاهرة، ويذهب القاهريون لطنطا لمولد السيد البدوي. ويذهب السكندريون لمولد سيدي أبو الحجاج بالأقصر. وهكذا في كل الموالد المصرية. ومغزى ذلك أنّ لا أحد يعترض ولا يـُـكفــّـر الآخر الذي يحتفل بمولد الولي المحلى.
ثالثًا: أنها انتقلتْ من مصر القديمة ، حيث كان أتباع (آمون) يحتفلون مع أتباع (أوزير) إلخ، ثم انتقلتْ عبر التاريخ من الاحتفال بالآلهة إلى الاحتفال بالأنبياء والقديسين والأولياء، كما ذكر د. سيد عويس وغيره.
رابعًـا: وليس أدل على (توحد) شعبنا أنّ الطقوس في الموالد المسيحية والإسلامية واحدة، من حيث مظاهر الاحتفال (مراجيح الأطفال، عربات الحمص، الإبداع الشعبي من رقص وغناء..إلخ) الاختلاف الوحيد هو كلمات المديح للقديس أو الولي، ومع ملاحظة أنّ الموسيقى مستمدة من الموسيقى المصرية القديمة وخاصة مرحلتها القبطية كما لاحظ سليمان جميل وغيره.
خامسًا: درس احتضان شعبنا للوالي العربي (محمد بن أبى بكر) ودفنه في مصر. ولم يهتم شعبنا بظروف حياته ولا ظروف مقتله التي سردتها كتب التاريخ العربي/الإسلامي، فهو قد اشترك في حصار الخليفة عثمان، ومنع الماء والطعام عنه وعن أهله، وأحد قاتليه السافحين لدمه (وهناك روايات مختلفة حول دوره في اغتيال عثمان) بينما أكد ابن عبد البر على مشاركة محمد بن أبى بكر في دم عثمان. كما يـُـثير دوره في الاغتيال بعض الأسئلة : ماذا يقول أبو بكر لعثمان عندما يقابله في الجنة وكيف يعتذر له ؟ خاصة أنّ أبى بكر وعلي وعائشة مضمونة لهم الجنة ، فكيف ينعمون بنعيمها وابن الأول وربيب الثاني وأخي الثالثة تشويه نار جهنم ؟
وبعد قتل عثمان جاء دور الانتقام من محمد بن أبى بكر، حيث لاحقه خصومه للأخذ بالثأر. وكما كان قتل محمد بن أبى حذيفة بأمر مباشر من ابن خاله والصحابي مثله وهو ابن أبى سفيان ، كذلك كان قتل محمد بن أبى بكر على أيدي صحابة مثله ، وزادوا على ذلك بأنْ أفحشوا وتجاوزا كل الحدود حتى الحدود الدنيا. وذكر اليعقوبي ((كان محمد بن أبى بكر على الرجالة يوم الجمل ثم تولى ولاية مصر فقتله معاوية ابن جديح صبرًا)) وسرد ابن الأثير الجزري الطريقة بالغة البشاعة في وصف قتل محمد بن أبى بكر، وعلــّـق دمه في رقبة صحابييْن : عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج فكتب ((ولما تولى محمد بن أبى بكر مصر سار إليه عمرو بن العاص فاقتتلوا وانهزم محمد ودخل خربة فأخرج منها وقـُـتل وأحرق في جوف حمار ميت. وقيل قتله عمرو بن العاص صبرًا)) وأسهبتْ كتب التراث العربي/ الإسلامي في وصف المشهد التراجيدي الذي تعرّضت له أسماء بنت أبى بكر، عندما ذهب خصوم أخيها إليها وأبلغوها بأنّ أخاها مدفون في جوف حمار ميت . وهو مشهد لم يخطر على بال مؤلفي المسرح التراجيدي من سوفكليس إلى شكسبير.
والسؤال الذي حوله الكثير من الغموض هو: لماذا لم تأمر أسماء بنت أبى بكر أو أختها عائشة بنقل جثة أخيهما من مصر إلى جزيرة العرب ؟ ومن الذي شيـّـد ضريحه في مصر؟ وأليست ظاهرة الأضرحة ظاهرة مصرية بنسبة100%؟ وألا يعنى ذلك أنّ أجدادنا المصريين – بفطرتهم الإنسانية – هم الذين بنوا ضريحه ، وأنّ الأجيال التالية ظلــّــتْ تحتفظ بذكراه، بمراعاة أنه ابن الصادق الأمين الذي وقف مع نبي الإسلام في بداية دعوته. وألا يدل كل ذلك على أنّ شعبنا لا ينشغل بأمور السياسة وألاعيبها، وإنما ينصرف اهتمامه بالعلاقات الإنسانية أكثر من أى شىء آخر، كما حدث من احتضان شعبنا للسيدة زينب وشقيقها الحسين ؟ اللذيْن يحتفل بهما في مصر بينما العرب لا يعرفون ولا يعترفون بتلك الظاهرة بالغة الأهمية في نسيج الثقافة القومية المصرية.
وكان الباحث روبير الفارس غاية في الدقة عندما لاحظ أنّ الإبداع الشعبي المصري متأثر بالحضارة المصرية، سواء في الموسيقى أو في التراتيل أو في شعر الحكمة أو في الأساطير، وبصفة خاصة في التشابه الواضح بين صورة مار جرجس وهو يقتل التنين(حيوان خرافي) وصورة حورس في الأسطورة المصرية وهو يطعن (ست) رمز الشر، بالحربة والموجودة في المتحف المصري (الفولكلور القبطي – هيئة قصور الثقافة – عام2007- أكثر من صفحة) وهكذا استمرّتْ الحضارة المصرية بلا انقطاع، عندما أخذتْ تـُـضفى خصائصها الثقافية القومية على الوافد من أماكن أخرى ، ومن بين الأمثلة على ذلك أنّ شعبنا منح صفة إيزيس (الطاهرة، رئيسة الديوان.. إلخ) إلى السيدة زينب، ومنح شقيقها الحسين صفات (أوزير) سيد الشهداء. وهكذا تجاور ضريح محمد بن أبى بكر، وضريح القديس مار جرجس.