ومن مفاعيل المسحة بالروح القدس فينا أنه يمنحنا الإنارة العقلية والروحية, وهذه عطية مثلثة تتجه إلي الماضي ثم إلي الحاضر ثم إلي المستقبل.
(أ) أما بالنسبة إلي الماضي فهو يذكرنا بوصايا الله وأفضاله علينا وبعهودنا التي قطعناها معه, ويذكرنا بمركزنا في العهد الجديد كأولاد الله, وينبهنا إلي مركزنا بالنسبة إلي العالم الذي صلب لنا وصلبنا له (غلاطية 6:41). قال السيد المسيح له المجد: وحتي إذا جاء المعزي وهو الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يذكركم بكل ما قلته لكم (يوحنا41:26). وفعلا كان الروح القدس يذكر التلاميذ الأطهار بأقوال معلمهم ووصاياه. قال الكتاب: ولم يفهم تلاميذه ذلك في مبدأ الأمر ولكنهم لما تمجد يسوع تذكروا أن ذلك مكتوب عنه (يوحنا12:16). وقد روي القديس بطرس الرسول أنه عندما حل الروح القدس علي كورنيليوس وأهل بيته, فآمنوا وطلبوا العماد فتذكرت كلام الرب حيث قال: إن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بروح القدس (أعمال الرسل11:16).
(ب) وأما بالنسبة إلي الحاضر فالروح القدس الموهوب لنا في سر مسحة الروح القدس يعلمنا كل شئ. والعلم هنا هو العلم الذي من لدن الله, وهو غير العلم البشري الذي يحصله الإنسان باستخدام عقله الطبيعي, أو يتلقاه من المعلمين أو من الكتب.
قال معلمنا لتلاميذه: حتي إذا جاء المعزي وهو الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فسيعلمكم كل شئ (يوحنا14:26). وقال أيضا: فمتي جاء ذاك الذي هو روح الحق فهو يرشدكم إلي الحق كله (يوحنا16:13).
وقال كذلك: فمتي ساقوكم إلي المجامع والحكام وذوي السلطان فلا يهمكم كيف أو بماذا تجيبون أو ماذا تقولون. لأن الروح القدس سيلهمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوا (لوقا12:12). انظر أيضا (متي10:19), (مرقس13:11), (لوقا21:14, 15). وقال القديس يوحنا الرسول: أما أنتم فإن لكم مسحة من القدوس, وتعلمون كل شئ.. ولا حاجة لكم إلي أن يعلمكم أحد بل ما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ هو حق لا كذب. فكما علمتكم اثبتوا فيه (1.يوحنا2:20, 27). انظر أيضا (يوحنا6:45), (العبرانيين8:10), (10:16).
(ج) وأما بالنسبة إلي المستقبل, فالروح القدس الذي نلناه في سر الميرون يستطيع أن ينبئنا بما سيحدث لنا. وهذه هي موهبة الكشف عن الغيب المحجب التي تنبع من إضرام الروح القدس فينا. قارن (2.تيموثيئوس1:6) مع (1.تسالونيكي5:19). قال رب المجد يسوع المسيح: فمتي جاء ذاك الذي هو روح الحق فهو يرشدكم إلي الحق كله لأنه لا يتكلم من عنده, وإنما يتكلم بما يسمعه وسيخبركم بأمور آتية (يوحنا16:13). انظر (الرؤيا1:1-10). ويقول ماربولس الرسول: فإن جميع الذين يقتادون بروح الله هم أبناء الله (رومية8:14). والإخبار بالأمور الآتية هو النبوة. لذلك يسمي الروح القدس روح النبوة (الرؤيا19:10). انظر أيضا (رومية12:6), (1.كورنثوس12:10), (13:2).
ويقول سفر الأعمال مشيرا إلي عمل سر مسحة الروح القدس في العهد الجديد من حيث النبوءة هذا هو ما قيل بفم يوئيل النبي القائل وسيحدث في الأيام الأخيرة, هكذا قال الله, إني سأسكب من روحي علي كل بشر, فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويري شبابكم رؤي, ويحلم شيوخكم أحلاما. وعلي عبيدي وإمائي سأسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون (أعمال2:17, 18), (يوئيل2:28).
وبالروح القدس أمكن للرسل القديسين أن ينبئوا بأمور مستقبلة, كما أمكن لغير الرسل من المؤمنين أن يتنبأوا, من أمثال أغابوس الذي ورد عنه في سفر الأعمال أنه أخذ منطقة بولس وأوثق بها يديه ورجليه, وقال: هذا ما يقول الروح القدس: إن الرجل صاحب هذه المنطقة سيوثقه اليهود هكذا في أورشليم ويسلمونه إلي أيدي الأمم (أعمال الرسل 21:11). وقد تمت نبوءته حرفيا (أعمال21:33).
وكثيرون من القديسين سواء أكانوا من رجال الكهنوت أو من الرهبان أو من عامة المؤمنين كانوا ينبئون بأمور مستقبلة. ولهذا فإن المصلي يطلب في كل يوم في صلاة الساعة الثالثة من النهار أن لا ينزع منه الروح القدس.. روح النبوة.. أيها القادر علي كل شئ لأنك أنت هو ضياء نفوسنا.
* * *
ومن مفاعيل الروح القدس أنه يحركنا نحو محبة الحق (مزمور98:4), والفرح بالحق (1.كونثوس الأولي13:6), وطلب الحق (إشعياء1:17), ومعرفة الحق (يوحنا17:3), وقول الحق (يوحنا19:35), وتقديس الحق (أفسس4:24), والشهادة للحق (متي12:18), والحكم بالحق (لو12:57), والسير في طريق الحق (متي21:32), والطاعة للحق (بطرس الأولي1:22), والعبادة بالحق (يوحنا4:22, 24), وفعل الحق (يوحنا الأولي3:18), وعمل كل شئ بروح الحق (متي22:16). لأن الروح القدس هو روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه يقيم معكم ويكون فيكم (يوحنا14:17) ولأن ثمر الروح في كل صلاح وبر وحق (أفسس5:9).
* * *
ومن مفاعيل الروح القدس أنهيهبنا القوة والشجاعة للثبات في الحق, والاعتراف به علنا وجهارا ولا خوف من أحد.
قال المسيح فادينا لتلاميذه القديسين: لكنكم ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم فتكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلي أقصي الأرض (أعمال الرسل1:8) وها أنا ذا أرسل إليكم ذلك الذي وعد به أبي, فامكثوا في مدينة أورشليم إلي أن توشحوا بقوة من الأعالي (لو24:49).
فبعد أن كان الرسل جبناء حتي إنه عندما قبض اليهود علي معلمهم تركه التلاميذ كلهم وهربوا (متي26:56), (مرقس14:50). قارن (متي26:31), (مرقس14:27). وبعد أن صلب مخلصهم قبعوا في العلية وأغلقوا من دونهم أبوابها وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين خوفا من اليهود (يوحنا20:19). رأيناهم بعد حلول الروح القدس عليهم في يوم الخمسين قد امتلأوا شجاعة وقوة, فخرجوا إلي الناس وصاروا يعظون ويوبخون ويكرزون باسم الرب بكل جرأة. فبطرس الذي أنكر سيده أمام جارية ثلاث مرات وأخذ يلعن ويحلف أنه لا يعرفه (متي26:74), (مرقس14:71), (لوقا22:57), (يوحنا18:26, 27). وقف بشجاعة تامة ورفع صوته وأخذ ينادي ببشري الخلاص لجميع الناس موبخا اليهود بصرامة علي رفضهم المسيح وصلبهم إياه حتي نخسوا في قلوبهم, فكسب منهم لملكوت سيده نحو ثلاثة آلاف نفس في يوم واحد (أعمال الرسل2:41). ووقف بعد ذلك مواقف جبارة أمام رؤساء كهنة اليهود وجند الهيكل وشهد للمسيح الرب بكل شجاعة وحملهم مسئولية صلبه. ولما هددوه هو وزميله القديس يوحنا الرسول بأن يصنعوا بهما شرا أجابا بكل قوة وشجاعة لا يمكننا ألا نتكلم بما رأينا وسمعنا (أعمال الرسل4:20). وطفقوا ينادون بكلمة الله بجرأة (أعمال4:31).ومرة استدعي القديس بطرس ورفاقه أمام رئيس الكهنة الذي قال لهم: قد أمرناكم أمرا ألا تعلموا بهذا الاسم. وها أنكم قد شحنتم أورشليم من تعليمكم, وتريدون أن تجلبوا دم هذا الرجل. فأجاب بطرس والرسل وقالوا: إن الله أحق من الناس أن يطاع (أعمال5:28, 29).
وكذلك فعل الروح القدس في القديس استفانوس رئيس الشمامسة (كان مملوءا إيمانا وقوة (أعمال6:8). فصار أول الشهداء (أعمال7:59, 60). وهكذا فعل الروح القدس في جميع أبطال الإيمان في كل تاريخ الكنيسة, دافعوا عن الحق علانية وبكل شجاعة, واحتملوا في سبيل شجاعتهم الكثير من الآلام, ودفع بعضهم ثمن شجاعته حياته ودمه.
فإذا كنا بسر المعمودية قد صرنا من رعايا الملك المسيح, فبسر مسحة الروح القدس نصير جنودا (تيموثيئوس الثانية2:3, 4), (فيلبي2:25), (فليمون2). نعمل تحت قيادة رئيس خلاصنا (عبرانيين2:10), ونحارب عن الإيمان ضد أعدائه. وإذا كنا بالمعمودية صرنا أبناء الله وأعضاء في جسد المسيح المقدس, فبسر مسحة الروح القدس نصير عسكرا في جيش الخلاص لامتداد ملكوته, أو من معسكر القديسين (رؤيا20:9). قال القديس أوغسطينوس: كل مسيحي يقبل ختم المسحة صار جنديا صالحا لله.
* * *
ومن مفاعيل سر مسحة الروح القدس أنه إذا أضرم بالعبادات والرياضات الروحية من صلوات وأصوام وقراءات وتأملات إلي مراقبة النفس ومحاسبتها وفحص الضمير إلي ممارسة الأسرار التقوية الأخري وخصوصا سري التوبة والتناول, فإن عمل الروح القدس في المسيحي ينمو ويمتد ويلد مواهب جديدة كلها صادرة عن الروح القدس, ومنها موهبة إخراج الشياطين (مرقس16:17), وموهبة شفاء المرضي (مرقس16:18), وموهبة التكلم باللغات (مرقس16:17), وموهبة تمييز الأرواح (كورنثوس الأولي12:10), (14:29), وهذه المواهب متنوعة يوزعها الروح القدس علي المسيحيين الذين نالوا سر المسحة, وأضرموا الروح بوسائط التنمية الروحية التي أعدها الله في كنيسته لهذا الغرض. والتوزيع يرسمه الروح القدس تبعا للاستعداد المسيحي وحسب احتياجات الكنيسة (أفسس4:7, 12).
يقول ماربولس الرسول: فإنه كما أن لنا في جسد واحد أعضاء كثيرة وليس جميع الأعضاء عمل واحد, كذلك نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وكل واحد منا عضو للآخرين. ولكن لنا مواهب مختلفة باختلاف النعمة المعطاة لنا (رو12:4-6).
ويقول ماربولس أيضا: إن للمواهب أنواعا (عبرانيين2:4) لكن الروح واحد. (1كورنثوس12:11). وإنما يعطي كل واحد إظهار الروح للمنفعة (1.كورنثوس14:26). فيعطي واحد بالروح كلام الحكمة (كولوسي1:9), وآخر كلام العلم (رومية15:14) بذلك الروح عينه. وآخر الإيمان (متي17:19, 20) بذلك الروح عينه. وآخر مواهب للشفاء (مرقس16:18) بالروح الواحد. وآخر صنع القوات (مرقس16:17), وآخر النبوة (متي7:22), وآخر تمييز الأرواح (يوحنا16:13), وآخر أنواع الألسنة (يوحنا14:26), وآخر ترجمة الألسنة (1.كورنثوس14:5, 13, 26-28). وهذا كله يعمله الروح الواحد بعينه موزعا علي كل واحد (1.كورنثوس7:7) كيف شاء (يوحنا3:8).. فإذا جميعنا اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد, يهودا كنا أم يونانيين, عبيدا أم أحرارا, وجميعنا سقينا روحا واحدا (يوحنا7:37-39), (1.كورنثوس12:4-13).