كل من يكتب القصة والرواية في مصر والوطن العربي الآن, لابد أن نطلق عليهم أحفاد نجيب محفوظ. حتي وإن كانوا لم يتعاملوا معه, أو رأوه رؤيا الأعين, أو أنصتوا له وتكلموا في حضوره. فالأب المؤسس لفن ما يظل كل من يكتبون بعده أبناء أو أحفاد.
وسبق أن أقامت لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة ندوة بعنوان: أحفاد نجيب محفوظ. تكلم فيها ثلاثة من المبدعين الشباب عن علاقاتهم بنجيب محفوظ, وقدموا شهادات بالغة الجمال والرقي عن موقفهم من المشروع المحفوظي في كتابة الرواية. ماذا أخذوا منه؟ ماذا رفضوا فيه؟ وكيف تمت قراءة نجيب محفوظ بالنسبة لكل منهم؟.
أبدأ بالكاتبة حتي لا أتهم بأنني مازلت فلاحا. الكاتبة هي لنا عبدالرحمن, كاتبة عربية تعيش في القاهرة, وقد قرأت شهادة مكتوبة عن إحساسها بنجيب محفوظ وعن إحساسها بالرهبة عندما فكرت في أن تكتب عن موقفها من نجيب محفوظ وقراءتها له. وفي الشهادة عطر لغة عربية لم نعد نجده في كثير من الكتابات.
ولنا عبدالرحمن صدرت لها روايات ثلاث: حدائق السراب. تلامس. أغنية لمارجريت. بين عامي 2006, و2011, وصدر لها في القصة القصيرة: أوهام شرقية. الموتي لا يكذبون, بين عامي 2004 و.2006 وهي دكتورة في الأدب, وكان موضوعها: دلالة الجسد في السيرة الذاتية في الرواية النسائية, الرواية اللبنانية نموذجا. وكان جميلا أن تقدم شهادة عن قراءتها لنجيب محفوظ كاتبة عربية. رغم أنها تعيش في القاهرة وتزوجت من مصري وأصبحت مصرية. بمعني أنها حصلت علي الجنسية المصرية.
هذه أول مرة أقابل فيها لنا عبدالرحمن. ولا أخجل من أن أعترف أنني لم أقرأ لها من قبل. ربما رأيت كتابات صحفية لها هنا وهناك وهي كاتبة نشطة. لكن قراءة الروايات والقصص القصيرة لم تحدث وأعد بأن ذلك سيتم.
صاحب الشهادة الثانية: ياسر عبدالحافظ. أعتبره صديقا وزميلا. أحد ثلاثة نواب لرئيس تحرير جريدة أخبار الأدب. بعد أن تم تنحية رئيس التحرير عن العمل لأنه سلم الجريدة للإخوان في سنة حكمهم الكئيبة. يرأس تحرير أخبار الأدب الآن: طارق الطاهر, أما محمد شعير, وياسر عبدالحافظ. فإن مسماهما الوظيفي: نواب رئيس تحرير.
يعنيني في ياسر كتابته الروائية. فروايته الأولي: بمناسبة الحياة, صدرت في طبعة أولي سنة 2005 وطبعة ثانية سنة 2007, ووصلت إلي القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولي. وقد أعطاني خلال حضوره هذه الندوة روايته الجديدة: كتاب الأمان. وهي رواية تقع في حوالي ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط. ولم يمر من الوقت ما يسمح لي بقراءتها. ولكني فقط تصفحتها.
جاء ياسر عبدالحافظ ومعه كومة من الأوراق. ربما كانت مقدمة عمل ما سيكتبه. عبارة عن تناص مع نجيب محفوظ أو اختلاف معه أو إعجاب به. لكن مما قرأه من شهادته التي تشكل البذرة الأولي لما سيكتبه عن نجيب محفوظ تؤكد أنه قرأه وأحبه, وإن كان قد اختلف معه. وذكر نصوصا أحبها ونصوصا لم يحبها.
ياسر عبدالحافظ قابلته من قبل أكثر من مرة, إما في الوسط الأدبي أو في دنيا الصحافة, وأذكر أنني عندما سافرت الكويت لحضور ندوة أقامتها مجلة العربي, بدعوة من رئيس تحريرها الدكتو سليمان العسكري. كان هو قد وصل لتوه للعمل في مجلة العربي. ويبدو أنه عاد من رحلته إلي مصر فضلا عن أنه زوج زميلتنا القصاصة التي اعتزلت العمل الصحفي مبكرا جدا لكي تكون روائية وروائية فقط: منصورة عز الدين.
الشهادة الثالثة قدمها محمد عبدالنبي. وعندما صافحته كنت أراه لأول مرة. سألته: هل أنت محمد عبدالنبي المترجم؟ أم محمد عبدالنبي الروائي؟ قال لي أنا نفس الشخص. أنا أترجم وأكتب الرواية. لم يكن قد كتب شهادة. ولم تكن معه روايته التي صدرت من فترة ونفدت بسرعة: رجوع الشيخ. والناشر يتلكأ في إعادة طبعها رغم الإقبال عليها.
كان مع محمد عبدالنبي أوراق صغيرة مكتوب عليها كلمات ذكرتني بالبرشام الذي كنا نعده ليلة الامتحان ونركز فيه علي المواد التي نتصور أن الامتحان سيأتي فيها. لنسهل علي أنفسنا مهمة الغش دون أن نضبط ومعنا أوراق تصبح أدلة علي ممارستنا للغش. ورغم هذا فقد قدم شهادة بهرتني فيها المتابعة الدقيقة والدؤوبة للمشروع المحفوظي في كتابة الرواية.
ولأنه كان يرتجل, كان فقط ينظر في الأوراق الصغيرة التي أمامه. فقد جاء كلامه بدرجة عالية من الصدق. حكي عن الأعمال التي أحبها لنجيب محفوظ. قال في المرة الأولي التي قرأت فيها: أولاد حارتنا, أحببتها جدا, لكن عندما عدت لقراءتها من جديد لم أحبها بنفس القدر.
قال محمد عبدالنبي أنه أحب كثيرا جدا رواية: المرايا. والمرايا رواية لم تنل شهرة كافية في حياة نجيب محفوظ. ونظر إليها علي أنها أقل من رواياته الأخري, وفيها تجميع لعدد من الشخصيات التي قابلها نجيب محفوظ في الحياة بعد أن غير أسماءها وبدل ملامحها. لدرجة أنه في الفصل الخاص بسيد قطب يقدمه تحت مسمي: ماهر عبدالكريم.
لم أستطع منع نفسي من أن أحكي أن نجيب محفوظ كان حريصا علي أن ينشر عملا أو عملين كل سنة. وفي أحد الأعوام قال لنا ونحن جلوس أنه لم يجد موضوعا للكتابة في هذا العام. فجمع عددا من الشخصيات كتب بعضها من قبل, وكتب بضعها الآن, وجعل منها عملا سماه: المرايا.
لم تكن المرايا حسنة الحظ. فعندما قدمها للنشر في الأهرام, لم يتحمسوا لنشرها فدقع بها إلي مجلة الإذاعة والتليفزيون. فنشرت مسلسلة فيها. وقام الفنان السكندري المهم سيف وانلي, برسم الشخصيات. رسم بورتريه لكل شخصية من هذه الشخصيات. وهذه الرسومات الأصلية كانت لها حكاية أكثر مرارة من حكايات نجيب محفوظ نفسها.
قد نعود لها مرة أخري, إن كان في العمر بقية.
الإيميل/ [email protected]