عندما كان المخرج الشاب محمد الشناوي, نجل الفنان كمال الشناوي يملي علي عنوان بيته, وما إن قال عمارة زهراء الجزيرة, المطلة علي حديقة الأسماك في الزمالك, وإن كان رقم العمارة يقع في شارع حسن صبري, سألته عن الدور, فأكد لي أنه الدور السادس.
قلت له علي الفور: هذا العنوان هو عنوان شقة عبدالحليم حافظ. قال لي بهدوء تليفوني يغيظ: فعلا. سألته: وما علاقتك بهذه الشقة؟ قال لي: إنه متزوج من ابنة الحاجة علية, شقيقة حليم -هكذا كان ينطق الاسم- ويبدو أن كل من في البيت ينطقه بهذه الطريقة, قلت له:
- أنت حكاية إذن, ولا حواديت ألف ليلة وليلة.
كان الموعد في الساعة السادسة مساء, وهذا وقت متأخر بالنسبة لمن ينام مبكرا مثلي, وكان معنا السيناريست أشرف توفيق, وكاتب السيناريو ماهر عواد, وكان اللقاء لمناقشة عمل سينمائي, ما زال في رحم وطور الإعداد.
كنت أمام العمارة, وكان اليوم يودعنا, حيث ضوء الشمس العليل, الذي يذكر الإنسان بنهايات الأشياء يفرش المكان كله, هذه هي العمارة التي سكنتها أسطورة الغناء التي رحلت عن دنيانا في مارس 1977 والعمارة بالقرب من العمارة التي سكنت فيها أمينة ابنة طه حسين مع زوجها محمد حسن الزيات, وكلاهما يسبق اسمه المرحوم الآن, وبالقرب من المكان عمارة ليبون, أشهر عمارة في مصر, التي سكن فيها إحسان عبدالقدوس, وعاشت فيها سيدة الشاشة العربية المرحومة فاتن حمامة, وكانت بها أيضا مقر هيئة الإذاعة البريطانية في القاهرة, وبالقرب منا العمارة التي كانت تعيش فيها المرحومة نعمات أحمد فؤاد, وفي شقتها تلك المكتبة الغريبة المصممة علي شكل معبد فرعوني, وعلي مرمي البصر من ناحية اليمين المجلس الأعلي للثقافة, ومن اليسار وزارة الثقافة, وقريبا من المكان مقر اتحاد الكتاب.
والشارع الذي تطل عليه العمارة التي عاش فيها العندليب صمم خصيصا من أجل العشاق الذين غني لهم عبدالحليم, الأرض نظيفة والأشجار تفرش الظلال في كل مكان, وفي هذا الوقت من النهار تطول الظلال حتي تتداخل مع بعضها, حديقة الأسماك, هايد بارك العشاق, من لم يحضر إليها في زمن شبابه وأيام مراهقته مع حبيبة القلب, لكي يبثها حبه, تحت شقة وربما سمع وبصر من جعل الحب كالخبز والماء والهواء في حياة المصريين والعرب جميعا.
بالقرب منها نهر النيل, الذي نقول عنه نيل الزمالك, وفي الناحية الأخري عوامات تحتل النيل, وإحدي هذه العوامات تحولت إلي المكان الذي تدور فيه أحداث رواية نجيب محفوظ: ثرثرة فوق النيل.
والعمارة مكتوب عليها من الخارج ملك صندوق التأمين الخاص بضباط القوات المسلحة, لا بد وأنها تعود إلي الخمسينيات, عندما قام طليعة الضباط الأحرار بثورة 23 يوليو, التي غيرت الحياة ليس في مصر وحدها, ولا في الوطن العربي فقط, ولكن أخرجت للدنيا ما عرفناه بعد باسم العالم الثالث.
مطرب يوليو, مطرب الحلم القومي, يسكن في عمارة أقامها صندوق التأمين لضباط صنعوا هذه الثورة, هل هناك التقاء في الرمز والدلالة أكثر من هذا؟! لا أعرف إن كانت الصدفة وحدها هي التي صنعت هذا اللقاء؟ أم أن هناك نوعا من التعمد قد أخرجه إلي الوجود؟ عموما أعتبرها فاتحة خير.
في المدخل, وعلي يمين الداخل, مرايا مهولة وضخمة من مرايا الزمن القديم, والخشب المصنوع منه إطارها, ما زالت تفوح منه رائحة تقول إنه قطع من الأشجار بالأمس فقط, مع أنه هنا, في نفس هذا المكان منذ أكثر من نصف قرن, والخشب الذي صنعت منه صناديق البريد الجميلة, والتي لم يعد لها وجود في أيامنا, تبدو لمعة الخشب علي البعد موحية بالنضارة والبكارة والرخام فوق الأرضية يعطيك الانطباع بالطراوة, كأن المكان قطعة من الجنة.
البواب يجلس وقد مدد قدميه علي كنبة كبيرة في غرفة بواب تبدو في اتساع شقة من شقق أيامنا التي ضاقت, وفي المواجهة مصعدان, أحدهما معطل, والثاني يعمل وبين المصعدين ثمة إعلان عن مقر السفارة الملكية الدانمركية في الدور التاسع, وموعد منح التأشيرات من الساعة العاشرة صباحا, حتي الثانية بعد الظهر.
أدخل المصعد الذي يعمل, ومنذ أن جئت من بلدي, في منتصف الستينيات إلي القاهرة, وأنا أخاف من المصاعد, وأصاب بحالة رعب منها, وفي المصعد مقعد أخضر اللون, يذكرني بأن العمارات التي بنيت في القاهرة قبل دخول المصاعد إلي مصر, كان في كل دور مثل هذا المقعد, التي كنت أسميها مقاعد الرحمة.
أصعد إلي الدور السادس, وما إن أخرج من باب المصعد, حتي أفاجأ بما لم أكن أتوقعه أو أتصوره أبدا, الطرقة المواجهة لباب المصعد والمؤدية إلي باب شقة العندليب علي يدك اليسري, تحولت حيطانها إلي غابة من الكتابات المدونة بخطوط مراهقة, أقف, أقرأ, وكلما انطفأ النور الذي ينطفئ بصورة أوتوماتيكية, أشعله من جديد.
وقفت أقرأ عناوين الكلمات, لو كنت يوم أنساك, محمد القصبجي, آية من القرآن الكريم كان يحبها عبدالحليم في حياته لمن الملك اليوم؟! والآية يدونها له أحد عشاقه, اشتقت إليك, نوال عبدالله, موعود بالعذاب يا حليم, رانيا نور الدين, إلي روح حليم الطاهرة, سلاما.. سلاما, باقة ورد محملة بأرق الدعاء 1996/11/12 علي نجوان, حبنا حليم, كلنا نحبك, طارق بسطاروس+ دميانة, حبيبي حليم, كلنا نحبك, فافا, اشتركنا واجتمعنا علي حبك, هدي+ أحمد, من مصطفي حبيب إلي عبدالحليم, أنت الماضي والحاضر والمستقبل, لا قبلك ولا بعدك.
هذه مجرد عينة من الكتابات, وكلها مدونة في فترة زمنية تقع بين عامي 1992-1996 بعد دخولي الشقة قال لي محمد الشناوي: إن الحاجة علية (يقصد علية شبانة شقيقة عبدالحليم حافظ) كانت قد تعودت أن تحتفل بذكراه في المقبرة الموجودة في مقابر البساتين, ولكن منذ سنة 1992, وهي تقيم الذكري في الشقة, وهكذا يحضر عشاقه ومحبوه إلي هنا.
إن المنظر من المستحيل وصفه, والكتابات التي نقلتها بنصها تشكل قطرة في بحر, مع أن عددا قليلا جدا من الذين يحضرون هم الذين يختارون فكرة الكتابة, ولكن الأغلبية تحضر وتمشي دون كتابة.
لابد من الاعتراف أن ثمة رجفة أصابت الإنسان من مجرد تصور أنه يدخل شقة عاش فيها عبدالحليم حافظ, انفتح الباب, ثمة طرقة وراء الباب, أول ما يطالعك آية من القرآن الكريم معلقة علي يمين الداخل. أسأل: ماذا بقي من عبدالحليم في هذه الشقة؟
قال لي محمد الشناوي: الأثاث كله يخصه, وموضوع بنفس النظام الذي كان موجودا به في حياته, بعض اللوحات التي علي الحوائط تخص الحاجة علية, وكلها عبارة عن آيات قرآنية, في الصالون المكون من عدة غرف واسعة ومفتوحة علي بعضها, لوحة زيتية لعبدالحليم, رسمها له الفنان جمال كامل, أقترب من اللوحة الجميلة, أحدق فيها, فيها كل ملامح مدرسة جمال كامل في الرسم -جمال كامل يرحمه الله- ويبدو أن كل الناس الجميلة في بر مصر, لابد من القول يرحمهم الله, قبل ذكر أسمائهم ترك الكثير من اللوحات الجميلة.
قال لي محمد الشناوي: إنها ليست اللوحة الأصلية. الأصل حصل عليها أحد الأصدقاء -أصدقاء حليم- لكي يسجل بها برنامجا تليفزيونيا, ولكنه استنسخها, وأعاد صورة منها وليست الأصل, وماذا سنفعل في مواجهة هذه القرصنة؟!
الصالون يعكس حب العندليب للأماكن الواسعة, وتلك سمة من سمات كل الذين أتوا من الريف, أليس عبدالحليم ابن قرية الحلوات؟ إنه لا يحب الأماكن الضيقة, التي لا يعشقها سوي أولاد المدن, والجنة الجميلة التي كان يعيش فيها حليم, تطل علي حديقة جميلة, حيث مساحات غير محدودة من الخضرة, خضرة لا نهائية, تلتقي في النهاية مع زرقة السماء البعيدة.
قال ماهر عواد: هنا كان يجري حليم بروفات أغانيه, أقف وأنا أوشك علي أن تتوقف حتي قدرتي علي التنفس, هنا جرت بروفات: صافيني مرة, علي قد الشوق, نار يا حبيبي نار, ضي القناديل, قارئة الفنجان, باحلم بيك, وقبل هذه الأغاني وبعدها, حكاية شعب, يا جمال يا حبيب الملايين, إحنا الشعب, صورة, بستان الاشتراكية.
إن عصرا من الغناء قد جري هنا, وهو عصر المجد الحقيقي في قرننا العشرين, آه لو أن الجدران قادرة علي الكلام, لو أن هذا السقف قادر علي الاحتفاظ بصورة ما جري, لو أن النوافذ لها آذان, وتستعيد معنا الصوت العبقري, إن البروفة تعني بالدرجة الأولي عبقرية الإبداع في مراحلها المختلفة.
أطلب من محمد الشناوي دخول الجناح الذي كان يعيش فيه عبدالحليم, ندخل طرقة تبدأ من الصالون الواسع الذي كنا نجلس فيه توصل إلي هذا الجناح, والجناح عبارة عن غرفة نوم, لها شرفة مغلقة, وصالون صغير, يفتح علي غرفة فيها بعض الأشياء الخاصة, وهي غرفة مغلقة, لا أذكر أين قرأت تعبير خفف الوطء, فأنت في الطريق إلي مكان له مكان في حبة القلب.
هذا ما أحسست به, وأنا أتجول في جناح العندليب, وأهم ما يلفت النظر, هو أن المكان جري تصميمه خصيصا من أجل توفير القدرة علي الاستماع, كما لو كان عبدالحليم أذنا فقط, غرفة النوم طويلة, والسير فيها من المستحسن أن يتم بالعرض حتي يتمكن الإنسان من جودة الرؤيا, وفي مواجهة السرير جهاز أسطوانات لابد وأنه كان متقدما جدا في زمانه, وفي الشرفة سماعة بيضاء دائرية كبيرة, وبجوار السرير تليفون فيه ثلاثة خطوط, كان يعتبر متقدما في أيامه, وإن كان يبدو متخلفا في أيامنا هذه, وشكل السرير يوحي أنه فرداني, أو عزابي كما يقولون, لا يصلح لاستخدام شخصين.
في الصالون الصغير جهاز أسطوانات آخر, وإن كان أكبر من الذي في غرفة النوم, وفي مواجهته الكنبة الكبيرة والوحيدة في الجناح كله, والغرفة الملحقة والتي كانت مخصصة للأشياء والمتعلقات مغلقة.
أسأل عن حمام عبدالحليم, أدخله. لم يكن فيه سيراميك, وقتها كان لابد مع الاعتذار للصديقين, العزيزة يسرا والنجم عمر الشريف, اللذين يعلنان عن نوع من السيراميك معا يوميا في التليفزيون, الحمام أسود من الداخل, والأرضية من المرمر الأسود الغامق, وفيه بعض النقوش البيضاء, مكونات كلها توحي بالزمان, مرحاض, وحوض فوقه مرآة, وبانيو دائري صغير جدا, حوله ستارة من البلاستيك.
لا بد وأن البانيو الذي في حجم الباخرة لم يكن موجودا في زمنه, ربما كان موجودا في كل مكان من العالم, لم يكن مسموحا باستيراده لمصر, التي كانت تحارب إسرائيل, ومن ورائها أمريكا, وذلك بالإضافة عن وضع مصر, وبالنيابة عن العرب.
قال لي محمد الشناوي: إن عبدالحليم كان يأخذ فنه بأكبر قدر من الجدية, أقول له, وقبل هذه الجدية وبعدها, فإن قصته الخاصة, ومرضه, لعبا دورا مهما في تحويل عبدالحليم حافظ إلي أسطورة, خاصة نوع المرض, الذي يصاب به فرد من كل عشرة مصريين, وهو السبب الأول للوفيات بين المصريين, ألا وهو البلهارسيا.
أحاول أن أتذكر, لماذا لم أحاول السعي للقاء عبدالحليم مع أننا عشنا عصرا واحدا؟ جئت إلي الصحافة في أيامه الأخيرة, لا أتعب في تذكر السبب, كانوا يقولون عن عبدالحليم الذي أعتبره أسطورة زماني, إنه أول من أدخل علي الصحافة الفنية نظام دفع المرتبات الثابتة لعدد من الصحفيين الذين يقفون معه, ويتأهبون خصومه العداء.
هذا ما كان يقال, مع أنني أتصور أن عبدالحليم لم يكن في حاجة إلي من يدافع عنه, ولا حتي إلي من يهاجم خصومه, فالرجل قد أمم عصرا من الغناء لحسابه الخاص, إنه المطرب الذي مايزال الأول علي الرغم من مرور عشرين سنة علي رحيله عن عالمنا.
في حياته كنت أقول عنه إنه أقوي رجل ضعيف, وأصح إنسان مريض, وبعد رحيله أؤكد أنه أكثر الغائبين حضورا, بل إن حضوره أقوي من حضور كل الحاضرين جميعا.
إن عبدالحليم لا يمكن أن يجلس علي مقعد الغياب أبدا.
[email protected]