لا منازعة في أن نجيب محفوظ قصاص أصيل, وصاحب موهبة قصصية فذه, له جمهوره الذي بتعشق فنه, ويفضله حتي علي فن ثروت أباظه ومحمود البدوي.
ونجيب محفوظ من رواد القصة الحديثة ولكنه لا يعتبر صاحب البداية الخالقة كما فعل الدكتور محمد حسين هيكل بروايته زينب فإنه لم يكتف ليها بأن وضع أساس البناء, ولكنه أعلي من ركنه جانبا كبيرا, حتي أوشك أن يكون بناء شاهقا باذخ الشرفات.
ونجيب محفوظ تصور قصته قبل أن يسجلها علي القرطاس كلاما, ويسحن تحريك شخوصها في المجالات التي ترسمها لهم فطرته القصصية ولكن شيئا واحدا قد يحول بينك وبين المتاع بتملي هذه الشخوص واستجلاء لمحاتها النفسية ذلك هوغرام نجيب بالتحليل, وذلك الغرم الذي يتجاوز الشخوص أحيانا إلي المشاهد والمناظر, فهو لا يني يتقصي, ويطيل في التقصي, ولا يمل من تلك الإطلالة حتي توشك الإطلالة أن تمله وتعلن فنه. ويحلل الشخصية في موقف ما, فيطيل التحليل حتي يفتر الموقف, ويبدو التحليل كأنه عمل من أعمال الكاتب المقصودة, وأشد من ذلك وأدهي أن يفرض نجيب في التحليل نفسه, فيطالعك بشخصه من بين السطور, فيفسد عليك لذة الانخداع القصصي.
وشبيه بذلك أن تشهد رواية تمثل علي مسرح, ولا تلبث أن تندمج في جوها, حتي يبدو الملقن لعينيك يتلو علي الممثلين ما يلقونه إليك من حوار.. فيضيع اخداعك, ويتردي العمل الفني في الهاوية.. والتحليل علي ذلك النحو هو آفة نجيب الكبري, ولست أعيب التحليل في حد ذاته, ولكنني أعيبه حين يؤدي إلي غايتين احداهما أشد سوءا من الأخري:
الأولي: ضياع الانخداع القصصي وعدم الشعور بجدية القصة.
والثانية: ضعف التشويق الذي لا يدفع القاريء إلي المتابعة.. وهذا التحليل لا يصاحب نجيبا في كل موقف, ولا يلزمه في كل قصصه ولكنه قد يتوزع هنا وهناك, ويبقي منه لأعمال نجيب حظ غير قليل من التجويد الفني والإبداع.
لولم يكن نجيب محفوظ قصاصا مبدعا لكان مصورا بارعا, فهو في زقاق المدق, يصور لك الزقاق, وسكانه, رجالا ونساء, ويرسم لك ليله ونهاره, ويطوف بدوره ودكاكينه ويختار بعض شخصيات الزقاق ليجعل من كل منها لوحة كاملة تزخر بالألوان الفريدة, ولكن هل استطاع الزقاق برجاله ونسائه وفتياته, وبدوره وحوانيته وسهراته الحمراء والخضراء والبيضاء, وفلسفة من فيه وغبائهم, وجنون بعض سكانه وعقلهم, هل استطاع الزقاق ـ كما صورته رواية نجيب ـ أن يقوم في ذهن قاريء تلك الرواية عالما مستكملا ودنيا يعورها شيء؟
وبعبارة أخري هل استطاع معرض الصور الذي أنشأته ريشة نجيب في زقاق المدق أن يقوم وحده, وبغير حاجة إلي شيء آخر غير تلك الصور, فتكون له في نظرك وتقديرك مقومات عالم كامل لا نقص فيه!
صور رائعة حقا, ولكنها توشك أن تكون صور متحف أو معرض لا صور حياة تموج بها, وتجتمع أو تتفرق في أرجائها!
وفي زقاق المدق أخطاء نحوية ولغوية كنا نحب ألا يقع فيها مثل نجيب ومن ذلك:
فلا تكاد تري في صفحته لا سمات ولا خطوط ولا أنف ولا عينان
وبضع أفدنة بالمرج
فأبدي الكثيرون عن اغتباطهم
إنها كنبتان من الطراز القديم متقابلتين علي أن هذا كله لا ينقص كثيرا من قدر نجيب كقصاص من أولئك الذين أسهموا بجهد غير قليل في نهضة القصة الحدثية وتطورها.
العوضي الوكيل