تمثل الصحافة ووسائل الإعلام عموما أحد أهم وسائل التأثير في الرأي العام, وإحدي وسائل ما تعرف بـ ” القوة الناعمة” للدول , وفي بعض الدول أهم أدوات قوتها الصلبة ولعقود طويلة كانت أهم المؤثرات المصرية في المنطقة عبر قوتها الناعمة التي تتمثل في الثقافة والإعلام والسينما وحتي اللهجة المصرية وقد تراجع دور مصر بشكل ملحوظ في تأثيراته الناعمة في المنطقة.
وترتكز الصحافة المستقرة المتقدمة علي ساقين تمثل إحداهما الحقوق والحريات وتمثل الأخري المسئوليات والواجبات, وبناء علي التوازن بينهما يمكن تقييم وضع الصحافة في أي بلد. وهناك ركائز رئيسية تتشكل منها حقوق الصحافة وتمثل العمود الفقري لحريتها وإذا توفرت هذه الركائز نستطيع أن نقول إن هناك حرية صحافة في هذا البلد أو ذاك ومن أهم هذه الركائز ما يلي:
أولا: الحق في إصدار الصحف كشركات , أي بالإخطار وليس بالترخيص.
وهذا الحق غير متوفر في مصر ولا في أي دولة عربية, فرغم الانفجار في عدد المطبوعات المصرية إلا أن إصدار صحيفة في النهاية هو قرار سياسي يصدر عن مؤسسة رسمية هي المجلس الأعلي للصحافة ,وقبل ذلك لا يتم إلا عبر ضوء أخضر من الأجهزة الأمنية التي تمنع وتمنح وفقا لمعايير أمنية ليس لها علاقة بحرية الصحافة أو نزاهتها, ولهذا توجد في مصر الكثير من الصحف الخاصة والحزبية ولكن لا توجد صحف مستقلة.
الصحيفة سلعة مثل أي سلعة تصدر عن شركات تكسب وتخسر وتتوسع وتفلس, والتحكم في إصدار الصحف هو تحكم في البيئة الحاكمة للصحافة وهو توجيه للخطوط الرئيسية للعمل الصحفي وللصحافة وتوجهاتها والأطر التي تتحرك فيها.
ثانيا: الحق في الحصول علي المعلومات
الخبر والتحقيق والتقرير والتحليل السياسي كلها أمور قائمة علي توفر المعلومات الصحيحة ولهذا توجد في الدول المتقدمة قوانين تقنن حق الحصول علي المعلومات بعيدا عن التسريب والتخمين, فبدون معلومة تصبح الصحف فقيرة إعلاميا وبدون معلومة صحيحة تفقد الصحف مصداقيتها, وميزة حق الحصول علي المعلومات أنها تمنع الانتقائية وتجعل المهنية هي معيار النشر وليست الإنتقائية الموجهة في حالة التحكم في المعلومات من قبل الحكومات. والتحكم في المعلومات هو أداة من أدوات النظم المستبدة تستخدمها لتوجيه الإعلام والانتقام من خصومها وإبراز محسوبيها وشللها… وفي النهاية هو اعتداء علي حق المواطن في المعرفة.
ثالثا:إلغاء الحبس في قضايا النشر
وهي حقوق حصلت عليها الصحافة في الدول المتقدمة منذ حوالي مائتي عام, فلا يجوز حبس شخص بسبب آرائه مهما كانت هذه الآراء, ولا يجوز حبس صحفي بسبب القذف والسب والإهانة…فقط الدعوة للعنف والقتل هي التي تعتبر جرائم تستوجب العقاب الجنائي حماية للمجتمع. وضمان عدم الحبس في قضايا النشر لا تنطبق علي الصحفيين فقط ولكن علي المواطن العادي الذي ينشر رأيا في الصحف.
ولا يعني عدم حبس الصحفيين انتفاء العقوبة في حالة السب والقذف وإنما يجب تغليظ العقوبات المالية وإن أدي ذلك إلي إفلاس الصحف التي لا هم لها سوي التطاول علي الناس وابتزازهم ونشر ثقافة هدامة تطول الأديان والأشخاص وحرمة الحياة الخاصة وتنتعش علي نشر الأخبار الكاذبة والتحقيقات المفبركة والتقارير المزيفة والفضائح المختلقة.
رابعا:حق الصحفي في الاحتفاظ بسرية مصادره بدون تهديد
وهي قضايا نوقشت في أمريكا علي أعلي مستوي خلال أزمة ما عرف بأوراق البنتاجون عام 1972 وفي عام 2005 في قضية جوديث ميللر الصحفية السابقة في جريدة النيويورك تايمز والباحثة حاليا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية بنيويورك لإصرارها علي الاحتفاظ بسرية المصدر في قضية البرنامج النووي العراقي وسجنت في 6 يوليو 2005 لإصرارها علي حقها في حماية مصادرها السرية. وحق الاحتفاظ بالمصادر هو حق مقنن في أمريكا علي مستوي الولايات ولكنه غير مقنن علي مستوي القضاء الفيدرالي ,ويسعي الصحفيون الأمريكيون لجعل الاحتفاظ بسرية المصدر مقننا فيدراليا مثل حق المحامي مع موكله والطبيب مع مريضه.
وهناك فرق بين هوية الجريمة وهوية المصدر, فالإبلاغ عن الجريمة ومحاولة منعها هو حق أساسي للمجتمع أما هوية المصدر فتخضع للسرية في حالة الطبيب مع مريضه والمحامي مع موكله فكلاهما له الحق الفيدرالي في التستر علي عميله بدون عقوبة, ويسعي الصحفيون في أمريكا للحصول علي هذا الحق فيدراليا.
ووقتها دار النقاش علي أن الحكومة الأمريكية أحيانا تسرب معلومات ضد خصومها للتشهير بهم وحماية المصدر في هذه الحالة هو تستر علي ابتزاز الحكومة لمواطنيها.. ومازال النقاش دائرا ويحتاج إلي تقنين متوازن , ولكن في النهاية يشكل حماية المصدر من التهديد جزءا أساسيا من حرية الصحافة.
خامسا: الفصل بين التحرير والإدارة
يشكل الفصل بين التحرير والإدارة عاملا مهما في حرية الصحافة, حيث تكون المهنية فقط هي معيار النشر ويتبع الإعلان الإدارة وليس التحرير. ولا تستقيم حرية الصحافة بدون هذا الفصل, فهو يحمي الصحف من تأثير المال ومن التدخلات الشخصية للمالكين ولا يتم ذلك إلا عبر إطار مؤسسي ومن خلال اتفاقيات واضحة لحدود الإدارة وحدود التحرير واختصاصات كل منهما.
ويترتب علي هذا الفصل ضعف تأثير العوامل الخارجية علي توجهات الصحف, فلو اشترت دولة عربية مليون نسخة يوميا من النيويورك تايمز مثلا فلن يمنع إدارة التحرير من انتقاد هذه الدولة, عكس هذا يحدث في مصر والدول العربية , فهناك دول عربية محددة تشتري آلاف النسخ من صحف بعينها وتحيدها تماما تجاه أخبار تنتقد أوضاع هذه الدولة ولا تنشر عنها إلا النفاق وأخبار تجميلية كاذبة.
سادسا: منع الاحتكار
لا يستقيم مفهوم حرية الصحافة مع احتكار ملكية الصحف سواء للحكومات أو لأشخاص بعينهم . ولهذا ينتفي مفهوم حرية الصحافة في الدول التي تسيطر علي ملكية الصحف أو تسيطر علي النصيب الأكبر منها, ويقف ضد لحتكار الصحف حق أي شخص في إصدار صحيفة كما قلت بمجرد الاخطار.
ولا ينطوي الاحتكار علي الملكية فحسب وإنما علي المعلومات وعلي حق اصدار الصحف فكلاهما احتكار, فاحتكار الملكية واضح واحتكار المعلومات هو توجيه لحرية الصحافة واحتكار حق الإصدار هو توجيه أيضا لحرية الصحافة ورسالتها, وكل ذلك يقف علي النقيض من مفهوم حرية الصحافة.
سابعا: تعددية الصحف وتنوع اتجاهاتها
يشكل حق جميع المواطنين علي مختلف تنوعاتهم العرقية والدينية والنوعية والأيدولوجية ركنا أساسيا من حرية الصحافة, فلا تستقيم حرية الصحافة ووضع عوائق أمام فئة أو جماعة معينة أمام التعبير عن نفسها من خلال حق إصدارها لصحفها الخاصة ووسائل الإعلام المختلفة, ولا تستقيم حرية الصحافة ومحاولة التعتيم أو تهميش جماعة معينة في الصحافة المملوكة للدولة, فبقدر تنوع وشمولية وتعدد التناول الإعلامي بقدر الثراء المجتمعي, وفي النهاية تنتفي حرية الصحافة في حالة وجود موانع أو عوائق أو بيئة مانعة لإظهار تنوع المجتمعات واختلافاتها في وسائل الإعلام.
وأخيرا: الحق في التعبير عن الرأي بدون قيود أو خطوط حمراء
وهذا حق أساسي ومبدئي من حقوق الصحافة وهو حق النشر والتعبير بدون أي رقابة من أي نوع سواء كانت رقابة حكومية أو قانونية أو مجتمعية أو وجود خطوط حمراء يمنع الاقتراب منها.
هذه هي الركائز الأساسية لحرية الصحافة إذا توفرت نقول إننا إزاء صحافة حرة ,ومعظم هذه الركائز غير متوفر في حالة مصر رغم الحديث والتصريحات الرنانة بأن هناك حرية صحافة فيها, ولهذ تصنف مؤسسة فريدوم هاوس مصر من الدول التي تخلو من حرية الصحافة وتضع منظمة مراسلون بلا حدود مصر في ترتيب 101 من 139 دولة مرتبة حسب حريات الصحافة بها.
هذا عن معايير حرية الصحافة فماذا عن واجباتها ومسئولياتها هذا ما سوف نناقشه في المقال القادم.
[email protected]