مقدمة:
تحتفل كنيستنا القبطية الأرثوذكسية في هذه الليلة المباركة بعيد القيامة المجيد أو بعيد الفصح, الذي فيه قام السيد المسيح من بين الأموات بسلطان لاهوته لذلك دعي المسيح في قيامته بأول قيامة الأموات (أع26:23), أو بباكورة الراقدين (1كو15:20), أو بالبكر من الأموات (رؤ1:5).
وبناء علي ذلك, يعد هذا العيد, هو من أعظم, وأهم الأعياد في المسيحية, ويرجع تاريخ الاحتفال به, لأكثر من ألفي عام.
لذلك أتقدم لكم بالتهنئة القلبية بعيد القيامة المجيد, طالبا لكم فيه من الله, ولكنيستنا المقدسة ولوطننا العزيز مصر وللعالم أجمع, كل بركة وخير وسلام وتقدم.
أما عن موضوعنا في هذا العيد الذي أود أن أتحدث فيه معكم, فهو عن: ما بين الموت الجسدي, والقيامة العامة.
أولا:- فلنبدأ حديثنا بجانب الموت الجسدي
1- وفيه تنحل الرابطة التي بين جسد الإنسان وروحه.
بعد أن كانت في اتحاد ووحدانية, منذ بداية الحبل في بطن الأم, إلي يوم الوفاة أو الموت الجسدي.
لذلك بالموت تنفصل وتتوقف هذه الرابطة بانفصال الروح ومفارقتها للجسد, فيموت الجسد إلا أن الروح تظل حية لا تموت بموت الجسد, لأن الله أعطاها طبيعة بألا تموت إطلاقا, كما أنها مصدر الحياة للجسد!!
وهذا ما أشار إليه الكتاب المقدس في سفر الجامعة, بقوله: فيرجع التراب إلي الأرض, كما كان, وترجع الروح إلي الله, الذي أعطاها (جا12:7).
وبالرغم من موت الإنسان ورجوع جسده الترابي إلي الأرض التي خلق منها, ورجوع روحه إلي الله التي أعطاها.
2- إلا أنه يظل الجسد والروح, كلاهما في الحفظ والصون لدي الله إلي يوم القيامة العامة أو قيامة الأجساد.
فرجع الجسد الإنساني إلي الأرض التي خلق منها هذا لا يعني أنه يدخل الفناء ويتلاشي بعد ذلك, إلا أنه يظل محفوظا في الأرض إلي يوم القيامة.
وكذلك الروح ترجع إلي الله أي تصعد بصحبة الملائكة إليه بمجرد خروجها من الجسد, سواء كانت مستعدة أو غير مستعدة. فإن كانت مستعدة يقابلها الله بوجهه الإلهي البشوش ويعزيها ويطمئنها علي خلاصها الأبدي, ويأمر بأن تذهب بها الملائكة إلي موضع انتظار الأرواح البارة إلي فردوس النعيم أي السماء الثالثة, إلي يوم القيامة العامة (لو23:43), (2كو12:1-4).
أما إن كانت الروح الإنسانية غير مستعدة وصعدت إلي الله يقابلها بوجه الديان الذي لا تحتمل الجبال الوقوف أمامه ويعرفها بنهايتها الصعبة ويأمر بأن تنزل بها الملائكة إلي موضع انتظار الأرواح غير التائبة والشريرة, أي إلي الهاوية, أو إلي الجحيم, أقسام الأرض السفلية, وذلك إلي يوم القيامة العامة (مز68:18), (أف4:9, 10), (1بط3:19, 20).
3- لكن من الملاحظ علي الإنسان, الذي مات أو انتقل إلي العالم الآخر, بأنه لا يأخذ شيئا من العالم معه, إلا أنه يأخذ معه أعماله, إن كانت صالحة أو شريرة.
وتأكيدا علي ذلك قال الكتاب في سفر الرؤيا عن الذين يموتون بأن: أعمالهم تتبعهم (رؤ14:13).
فلنحترس يا إخوتي ونحن أحياء بأن تكون أعمالنا صالحة ومرضية أمام الله لكي تكون سبب مكافأة لنا, لا سبب دينونة.
ثانيا:- ننتقل في حديثنا إلي جانب القيامة العامة أو قيامة الأجساد
فالقيامة من بين الأموت هي قاصرة فقط علي البشر دون بقية الخليقة الأرضية, وهذا يعطينا فكرة عن مكانة البشرية لدي الله واهتمامه الخاص بها في هذا الشأن.
1- توضيح حول تسمية القيامة من بين الأموات, بالقيامة العامة, أو بقيامة الأجساد.
وكون قيامة البشر من بين الأموات تدعي بالقيامة العامة, وذلك نظرا لأن فيها جميع الناس منذ أبينا آدم حتي آخر إنسان, سوف يموت علي وجه الأرض سوف يقومون من بين الأموات, ولا خيار ولا إرادة لهم في ذلك, لأن القيامة العامة هي قانون إلهي تسري فاعليته علي جميع البشر.
كما أكد السيد المسيح علي ذلك, بقوله: فإنه تأتي ساعة, فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلي قيامة الحياة, والذين عملوا السيئات إلي قيامة الدينونة (يو5:28, 29).
أما عن تسمية قيامة البشر من بين الأموات بقيامة الأجساد, فهذا يرجع إلي أن الأجساد هي التي تموت وقت موت أصحابها, وذلك بسبب انفصال الأرواح الإنسانية عنها, كما أشرنا سابقا.
والكتاب أشار في أكثر من موضع منه إلي قيامة أجساد البشر من بين الأموات وفي مقدمة ذلك ما جاء في سفر دانيال النبي في هذا الشأن: وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض, يستيقظون هؤلاء إلي الحياة الأبدية, وهؤلاء إلي العار للازدراء الأبدي (دا12:2).
وكما شهد الكتاب في سفر دانيال علي قيامة الأجساد من بين الأموات في يوم القيامة العامة, شهد كذلك القديس بولس في سفر الأعمال بقوله: إنه سوف تكون قيامة للأموات للأبرار والأثمة (أع24:15).
2- وبالرغم من أن القيامة من بين الأموات, هي قيامة خاصة بالأجساد, إلا أن الحياة ترجع لتلك الأجساد بعد رجوع الأرواح الإنسانية إليها التي انفصلت عنها سابقا بالموت.
لأن الروح الإنسانية هي مصدر الحياة اللجسد وكل أجهزته وأعضائه وحواسه.
وبناء علي ذلك ترجع روح كل إنسان التي كانت محفوظة لدي الله, في الموضع المعد لها والخاص بها بسرعة فائقة ودقة متناهية وتتحد بجسد الإنسان القائم من بين الأموات التي كانت متحدة به قبل انفصالها عنه بالموت الجسدي, وذلك لكي تمنحه الحياة من الموت الجسدي.
ولذا أنبأ حزقيال النبي عن هذا الجانب بقوله: قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع, وهب علي هؤلاء القتلي ليحيوا. فتنبأت كما أمرني, فدخل فيهم الروح, فحيوا وقاموا علي أقدامهم, جيش عظيم جدا جدا (حز37:9-10).
وفي اعتقادي قول النبي: هلم يا روح, من الرياح الأربع يقصد بهذا الروح حزقيال النبي أي الروح القدس, وعن دوره في القيامة العامة للبشر وذلك في إرجاع روح كل إنسان إلي جسده لكي تمنحه الحياة الجسدة كما كان له دور سابقا في خلق آدم وكل نسله وذلك في منح كل منهم الروح الإنسانية.
3- ننتقل إلي جانب مهم, وهو خاص بعلاقة القيامة العامة بالدينونة.
لأن الله في إقراره لقانون القيامة العامة من بين الأموات, كان ولا يزال له هدف أساسي منها وهو هدف الدينونة وذلك بمكافأة الأبرار علي برهم وأعمالهم الصالحة ومعاقبة غير التائبين والأشرار علي شرهم وأعمالهم الشريرة.
وهذا يحتم أولا وقوف جميع الناس في يوم الدينونة أمام الله الديان لدينونة كل منهم علي ما فعلوه من أفعال في حياتهم الأرضية سواء كانت أعمالا صالحة أم ضارة.
وهذا ما أعلنه الرسول بولس في رسالته الثانية إلي أهل كورنثوس في هذا الشأن: لأنه لابد أننا جميعا, نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا (2كو5:10).
وهذا ما أعلنه المسيح صراحة في تعاليمه الخاصة في هذا الشأن الإيماني, بقوله: فإنه تأتي ساعة فيها يسمع الذين في القبور صوته, فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلي قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلي قيامة الدينونة (يو5:28-29).
وكون العقيدة الإيمانية الخاصة بدينونة البشر بعد قيامتهم من بين الأموات هي عقيدة واحدة ثابتة لا تتغير, ومتفق عليها في الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث, فلذا نجد دانيال النبي يشهد لها قائلا: وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلي الحياة الأبدية وهؤلاء إلي العار للازدراء الأبدي (دا12:2).
إذا نفهم من كل ما ذكر أنه من بين أهداف القيامة العامة هي مكافأة البعض من الناس ودينونة البعض الآخر.
وهذه العقيدة الإيمانية الخاصة بالدينونة توضح لنا عدل الله ورحمته فهو يحكم بعدل لكونه الله الديان علي من يستحقون تطبيق العدالة الإلهية عليهم لأنهم غير تائبين وأشرار.
وكذلك يحكم بعدل وبرحمة علي من يستحقون تطبيق العدالة والرحمة الإلهية عليهم لأنهم أبرار وقديسون.
من جانب آخر إيماننا بدينونة الله لجميع البشر علي كل ما فعلوه خيرا كان أم شرا, هذا يقوي إيماننا بالله ويعطينا حياة التسليم والاتكال عليه ويعزينا في متاعبنا وضيقاتنا وفي النهاية يظهر نوع ونوعية مجازاة الرب لكل واحد من البشر.
4- نختم حديثنا كما أن القيامة العامة تصل بنا إلي الدينونة هكذا الدينونة العامة تصل بنا إلي المصير الأبدي.
أقصد بالمصير الأبدي أي القائم علي الحكم الإلهي الذي يصدر علي كل إنسان وعليه يتحدد مصيره فإن كان بارا وذلك بالخلاص والتتويج بأكاليل البر وميراث ملكوت السموات مع الله وقديسيه من الملائكة والبشر ويسمع من الله في النهاية مع بقية القديسين, الحكم الإلهي القائل: تعالوا إلي يا مباركي أبي, رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم (مت25:34).
فالمصير الأبدي للأبرار هو له بداية في دخول ملكوت السموات, ولكن ليس له نهاية بل ممتد إلي حياة أبدية, كما قال المسيح: يمضي هؤلاء.. الأبرار إلي حياة أبدية (مت25:46).
إنني لا أستطيع أن أحصر النعم الإلهية التي يتمتع بها الأبرار في ميراثهم لملكوت السموات, ولكنني أشرت إلي البعض منها وإنما الباقي منها قال عنه الرسول بولس في رسالته الأولي لأهل كورنثوس: مكتوب ما لم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر علي بال إنسان, ما أعده الله للذين يحبونه (1كو2:9).
أما عن المصير الأبدي أي القائم علي الحكم الإلهي الذي يصدر علي غير التائبين والأشرار وذلك بالهلاك وتنوع وسائل التعذيب في النار الأبدية مع الشيطان وملائكته والبشر غير التائبين والأشرار ويسمع الإنسان في النهاية من الله مع بقية أمثاله من الناس, الحكم الإلهي القائل: اذهبوا عني يا ملاعين إلي النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته (مت25:41).
فالمصير الأبدي لغير التائبين والأشرار هو له بداية في دخول النار الأبدية مع الشيطان وملائكته ولكن ليس له نهاية, بل العذاب ممتد إلي حياة أبدية في النار الأبدية كما قال المسيح له المجد: يمضي هؤلاء إلي عذاب أبدي (مت25:46).
إنني لا أستطيع أن أحصر العذابات والمتاعب التي يتعذب بها غير التائبين والأشرار في ميراثهم النار الأبدية ولكنني أشرت إلي البعض منها.
وإنما الباقي الذي لم أذكره قال عنه الرسول بولس: مكتوب ما لم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر علي بال إنسان, ما أعده الله للذين يحبونه (1كو2:9).
نتعشم في الله ونعمته العاملة فينا ومعنا بأن يحفظ خلاصنا ويجعل لنا نصيبا معه ومع قديسيه من الملائكة والبشر في ملكوت السموات.
نصلي لله القائم من بين الأموات بسلطان لاهوته بأن يجعل هذا العيد سبب بركة وخير وسلام ومحبة بين جميع الناس وفي وطننا العزيز مصر وفي العالم أجمع.
وكل عام وجميعكم بخير.
لإلهنا المجد الدائم أبديا آمين.