منذ زمن بعيد في إحدى القرى النائية بصعيد مصر، كان هناك رجل يُدعى سامي، كان يعيش حياة بسيطة ومتواضعة. كان سامي رجلًا طيب القلب ومعروفًا بأمانته الشديدة. وكان يعمل كبائع في سوق القرية، حيث كان يبيع الفواكه والخضروات الطازجة. كان سامي دقيقًا جدًا في توزيع البضائع وتحصيل الأموال. وكان يضع أسعارًا معقولة ومناسبة للجميع، دون أن يحاول الغش أو الاستفادة من حاجة الناس. ولذلك، كان الناس يثقون به ويفضلون التعامل معه عن أي تاجر آخر في السوق.
في يوم من الأيام، جاء رجل غريب إلى سوق القرية واشترى بعض الاحتياجات من محل سامي. إلا أن بعد مغادرة الرجل المحل اكتشف سامي أن هناك خطًأ في الحساب، وأن هذا الرجل الغريب دفع مبلغًا أكبر من الثمن الفعلي للبضائع المشتراة. فقرر على الفور البحث عنه ليعيد له المبلغ المستحق، وكان مبلغًا كبيرًا. وبعد جهد كبير اكتشف سامي مكان هذا الرجل حتى وصل إلى منزله، وعندما طرق الباب، فاجأه الرجل بنظرة استغراب ودهشة. فقد تفاجأ بأن أحدهم أتى ليصحح الخطأ ويعيد له المال.
في اليوم التالي، عاد الرجل الغريب إلى سوق القرية وتوجه إلى محل سامي، واستمر التعامل بينهما طيلة وجود هذا الرجل في القرية. وقد أثرت قصة الأمانة التي حدثت بينهما على الرجل الغريب، حيث كان يكّن لسامي كل الاحترام والتقدير، ويعتبره مثالًا يُحتذى به في الأمانة والصدق. وانتشرت قصة سامي والرجل الغريب في القرية، وأصبحت حديث الناس، بل صارت – في بساطتها – مصدر إلهام للكثيرين، حيث تعلم الشباب أهمية الأمانة في جميع جوانب حياتهم، سواء في العمل أو العلاقات الشخصية أو حتى في التعامل مع المجتمع ككل. وهكذا، بدأت قيمة الأمانة تنتشر في المجتمع، وأصبحت جزءًا من الثقافة والتقاليد السائدة في القرية. وتعلم الناس أن الأمانة هي قيمة لا تقدر بثمن تجعل العلاقات بين الناس أكثر صدقًا وثقةً.
في عالمنا المعاصر الذي يتسم بالتقدم التكنولوجي والتطور السريع، وظهور أنواع جديدة من الممارسات السلوكية الشاذة تبدو القيم العليا وكأنها تلاشت في ظل الهموم اليومية وسعي البشر لتحقيق مصالحهم الشخصية واستغلال المواقف بغض النظر عن الآثار السلبية المدمرة لممارساتهم. فأصبحنا نرى في أيامنا المعاصرة انتشار الغش والكذب وعدم الأمانة على أصعدة مختلفة بدءً من البيت إلى الشارع ثم المجتمع بأسره، انتشار ظاهرة الغش التجاري، والسرقات الأدبية، واختراق الحسابات الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتطور الأمر إلى اختراقات الحسابات البنكية، واستغلال المعلومات الشخصية وبيعها للحصول على مكاسب مالية وتجارية. وفي كثير من الأحيان، ينظر الناس إلى الكذب والخداع والاحتيال باعتبارهم “شطارة” أو “فهلوة”، بينما يتم اعتبار الصدق والأمانة موروثات الماضي، وهي غير صالحة في أيامنا.
وفي الحقيقة، ستظل القيم العليا هي الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الناجحة. فهي المبادئ والمعايير التي تحدد سلوك الإنسان وتوجهه في مختلف جوانب حياته. وتشمل الأمانة، والصدق، والعدل، والاحترام، والتسامح، وغيرها من القيم التي تحقق التوازن والتنمية المستدامة للفرد والمجتمع.
تتحلى الأمانة بأهمية خاصة في هذا السياق، فهي تمثل الصدق والمصداقية في التعامل مع الآخرين وفي الوفاء بالتزاماتنا. إن الأمانة تعكس وعينا الشخصي ومدى التقوى الحقيقية في مواجهة التحديات والمسؤوليات التي تواجهنا. فعندما نكون أمناء في أفعالنا وكلماتنا، نبني جسور الثقة والاحترام مع الآخرين. إن الأمانة بالفعل هي حجر الزاوية لأي مجتمع ناجح ومزدهر. إنها تمنح الشخص قوة الشخصية والاستقامة في الحياة. فعندما نكون أمناء في أفعالنا وكلماتنا، نصبح أشخاصًا مؤثرين نستحق الاحترام والتقدير.
الأمانة فضيلة سامية وكلمة جميلة، تحمل عدة معانٍ رائعة؛ فهي تعني الإخلاص والوفاء، وأيضًا تعني: “ما هو طبق الأصل”؛ أو “من كان خارجه يشبه داخله”. بل والرائع أن كلمة مؤمن هي نفسها كلمة أمين faithful، نعم، فإن المؤمن والأمين هما وجهان لعملة واحدة.
وهناك العديد من الأمثال الأصيلة القديمة لسليمان الحكيم التي تقدم لنا دروسًا هامة في موضوع الأمانة، ليس فقط من حيث تعاملنا مع الآخرين، بل من حيث تعاملنا مع الله أيضًا. مثل، قول الحكيم: “اَلصِّدِّيقُ يَسْلُكُ بِكَمَالِهِ. طُوبَى لِبَنِيهِ بَعْدَهُ” يخبرنا هذا المثل أن الله يبارك الأولاد الذين يتبعون خطوات والديهم من حيث السلوك بأمانة. وأيضًا يقول الحكيم: “مِعْيَارٌ فَمِعْيَارٌ، مِكْيَالٌ فَمِكْيَالٌ، كِلاَهُمَا مَكْرَهَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ.” وهو يؤكد أن الغش التجاري بكل أنواعه هو أمر يبغضه الله، ويحذر الشباب من مغبة الحصول على الثروة من مصادر غير مشروعة “خُبْزُ الْكَذِبِ لَذِيذٌ لِلإِنْسَانِ، وَمِنْ بَعْدُ يَمْتَلِئُ فَمُهُ حَصًى”. والهدف الأسمى من هذه الأمثال إن الله يريدنا أن نطوّر شخصيات تتحلى بأخلاق عالية أهمها الأمانة له وللآخرين.
يقول سفر الأمثال: “الرجل الأمين كثير البركات” هذا ما حدث مع بطل قصتنا “سامي” حيث أصبح شخصًا محترمًا ومشهودًا له بالأمانة في القرية. وازدهرت مشاريعه التجارية وزادت عمليات الشراء منه، وصار الناس يثقون فيه ويعتبرونه تاجرًا موثوقًا به. وبهذه الطريقة، تعلم الناس في القرية أن الأمانة ليست مجرد كلمة فارغة، بل هي قيمة حقيقية يجب على الجميع التمسك بها. فالأمانة تعزز الثقة والتعاون وتبني مجتمعًا قويًا ومستقرًا.
لذا ينبغي أن تكون صفة الأمانة هي سمة العلاقات الاجتماعية بين الناس، ولأن الله يكره الكذب فهو يتوقع الصدق والأمانة من المؤمنين به “كَرَاهَةُ الرَّبِّ شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا الْعَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ.”، وإن من سمات الحكمة التي يهبها الله للبشر الصدق والأمانة: ‘‘اِسْمَعُوا فَإِنِّي أَتَكَلَّمُ بِأُمُورٍ شَرِيفَةٍ، وَافْتِتَاحُ شَفَتَيَّ اسْتِقَامَةٌ لأَنَّ حَنَكِي يَلْهَجُ بِالصِّدْقِ، وَمَكْرَهَةُ شَفَتَيَّ الْكَذِبُ كُلُّ كَلِمَاتِ فَمِي بِالْحَقِّ. لَيْسَ فِيهَا عِوَجٌ وَلاَ الْتِوَاءٌ’’.
إن القيم العليا لها تأثيرها الإيجابي وانعكاساتها القوية على الحياة النفسية للأفراد. فعندما نعيش وفقًا للأمانة والصدق، نشعر بالسلام الداخلي والراحة النفسية المستمدة من حضور الله في حياتنا وسيادته علينا. والثقة أن النجاح الحقيقي والإنجاز الشخصي يأتي من العيش وفقًا للمبادئ الأخلاقية العليا التي تتسق في الأساس مع صفات الله وقداسته وأمانته.
ولا يمكن أن نغفل دور الإعلام – بمختلف أدواته – في تعزيز القيم العليا في المجتمع، مثل الأمانة. فالإعلام الحر والمسؤول يعمل على نشر الوعي والتوعية بأهمية البناء الصحيح لممارسات إنسانية يومية مُعاشة تؤسس على قيم أخلاقية وترسيخها في حياة أفراد المجتمع بمختلف فئاته العمرية وتكويناته الاجتماعية. إن الإعلام المتخصص في نشر المعلومات والأخبار بشكل صحيح وموثوق يسهم في نشر رسالة الأمانة والصدق والعدل والاحترام بين الناس وتعزيز القيم العليا في المجتمع. كما يمكن للإعلام أن يساهم في رصد وتوثيق القصص الناجحة للأفراد الذين يعيشون وفقًا للأمانة، وبذلك يكونون قدوة للآخرين.
لنعزز القيم العليا ونكون قدوة حسنة، ونسعى لتحقيق التوازن بين مصالحنا الشخصية والمصلحة العامة ونتجنب الغش والاحتيال والتلاعب. ولنعمل سويًا لتعزيز قيمة الأمانة ونكون مصدر إلهام للآخرين. لنصبح أمناء في حياتنا، ونرسخ النزاهة والثقة والاحترام في أبناء هذا الجيل. لنبني مجتمعًا قويًا ومزدهرًا على أساس الأمانة والصدق. هذه رسالتنا ورهاننا على مستقبل أفضل