مقدمة:
تحتفل كنيستنا في هذه الليلة المقدسة بعيد ميلاد السيد السيح له المجد.
لذلك أهنئكم تهنئة قلبية, بهذه المناسبة المباركة, وكذلك أهنئكم تهنئة خاصة أيضا لجميع المصريين ولفخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي لفوزه في انتخابات الرئاسة المصرية لعام 2024, التي كان لها الأثر البالغ من الفرح والارتياح في نفوس المصريين, ونتمني لسيادته موفور الصحة والتوفيق في مهمته الكبير في ظل وجود التحديات الداخلية والإقليمية والدولية.
طالبا من الله أن يعم السلام والآخاء والتقدم لبلدنا العزيز مصر ولمنطقة الشرق الأوسط وخاصة في فلسطين والسودان وليبيا والعالم أجمع.
وأود أن أتكلم معكم في هذه المناسبة السعيدة عن: السلام.
لأن عبارة السلام جاءت مرتين في هذه المناسبة وفي مقدمة ذلك, جاءت علي لسان إشعياء النبي في نبوءاته عن ميلاد المسيح: لأنه يولد لنا ولد, ونعطي ابنا, وتكون الرياسة علي كتفه, ويدعي اسمه عجيبا مشيرا, إلها قديرا, أبا أبديا, رئيس السلام (إش9:6).
وتحققت هذه النبوءة بميلاد المسيح لذلك ظهر الملائكة مسبحين الله قائلين: المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام, وبالناس المسرة (لو2:14).
ويمكننا بعد ذلك أن نتكلم في هذا الموضوع من خلال أربعة جوانب, وهي كالآتي:
أولا: السلام وصية إلهية
ثانيا: السلام حياة وسلوك, لا مجرد كلام أو شعارات
ثالثا: كيفية الحصول علي السلام
رابعا: ثمار السلام
ولنعطي بعد ذلك فكرة سريعة مبسطة عن كل جانب علي حدة.
أولا: السلام وصية إلهية
أوصانا بها الله تبارك اسمه, في أكثر من موضع, لذلك نجده يقول لنا: سالموا بعضكم بعضا (مر9:50), (1تس5:13).
وفي موضع آخر, قال علي لسان معلمنا بولس الرسول: اتبعوا السلام مع الجميع, والقداسة التي بدونها لن يري أحد الرب (عب12:14).
ولكن أحيانا يتعذر علي الإنسان أن يعيش في سلام مع جميع الناس, ومن هنا جاء قول الكتاب: إن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس (رو12:18).
فالسلام إذا وصية إلهية, ينبغي أن نعمل بها في حياتنا.
ثانيا: من جانب آخر, السلام حياة وسلوك, لا مجرد كلام أو شعارات:
كثيرون من الناس يتكلمون عن السلام, ويظنون أنه مجرد كلام أو شعارات, ويرددونه علي ألسنتهم, وهم بعيدون عنه كل البعد, ولأجل هذا قال المرتل للرب: لا تجذبني مع الأشرار, ومع فعلة الإثم, المخاطبين أصحابهم بالسلام, والشر في قلوبهم (مز28:3).
مثال لذلك يهوذا الإسخريوطي, الذي باع سيده السيد المسيح, بثلاثين من الفضة: وأعطاهم علامة قائلا: الذي أقبله هو هو, أمسكوه. فتقدم إلي يسوع وقال: السلام لك يا سيد وقبله (مت26:48, 49), (مر14:44, 45), (لو22:47).
فعاتبه السيد المسيح قائلا: أبقبلة تسلم ابن الإنسان (لو22:48). ثم قبض الجند عليه بعد ذلك, وأيضا الجنود الذين قبضوا علي السيد المسيح: كانوا يجثون قدامه, ويستهزئون به قائلين: السلام يا ملك اليهود (مت27:29), (مر15:18), (يو19:3).
ولكن الله في الحقيقة, يريد منا أن نحيا السلام, ونسلك فيه, ونسعي لتحقيقه. لأن الدين ليس مجرد فرائض يؤديها الإنسان, دون أن يحياها, ولكن الدين في مفهومه الصحيح وجوهره, هو حياة يحياها الإنسان, كما قال الرب: الكلام الذي أكلمكم به, هو روح وحياة (يو6:63).
ثالثا: وبكون السلام حياة وسلوكا, فإذا كيف نحصل عليه؟!
في الحقيقة يا إخوتي, يمكننا أن نحصل علي السلام, بطرق متعددة, ومن بينها:
1- عن طريق التوبة, والإقرار بالخطأ.
معروف عن التوبة أنها الأساس أو الأم الولادة لبقية الفضائل, كما أن الخطيئة هي الأساس أو الأم الولادة لكل الرذائل.
فإذا توفرت التوبة للإنسان توفر السلام معها, لأنه بالتوبة يصطلح الإنسان مع الله, ومع نفسه, ومع الآخرين أيضا, ولأجل هذا, قال الرسول بولس: إذ نسعي كسفراء.. تصالحوا مع الله (2كو5:20).
وإن لم تتوفر التوبة, لا يتوفر السلام, لأنه بالخطيئة يدخل الإنسان في عداء مع الله, ومع نفسه, ومع الآخرين أيضا. ولذلك قال إشعياء النبي: لا سلام قال الرب للأشرار (إش48:22), (إش57:21).
2- وأيضا يمكننا أن نحصل علي السلام, عن طريق معرفة الله.
إذا عرفنا الله يمكننا أن نحصل علي السلام ولا أقصد هنا المعرفة الفكرية فقط, وإنما المعرفة المعاشة الاختبارية كما قال يوحنا الرسول: الذي سمعناه, الذي رأيناه بعيوننا, الذي شاهدناه, ولمسته أيدينا, من جهة كلمة الحياة (1يو1:1).
وأيضا بطرس الرسول, قال عن المعرفة الاختبارية مع الله: لم نتبع خرافات مصنعة. إذ عرفناكم, بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه, بل قد كنا معاينين عظمته (2بط1:16). ومن هذه المعرفة الاختبارية, تكون لنا شركة معه, ونكون أيضا من تبعيته وخاصته, وبالتالي نكون قد تتلمذنا علي يديه, وكشف لنا البعض من صفاته الجميلة, والتي عن طريقها, نتعلم الكثير والكثير في حياتنا, وفي مقدمتها السلام.
لأن الله دعي بإله السلام, في أكثر من موضع, في الكتاب (رو15:33), (رو16:20), (1كو14:33), (2تس3:16), (عب13:20, 21).
3- ويترتب أيضا من معرفتنا بالله, حفظ وصاياه, التي هي خير مساعد, علي وجود السلام.
الله تبارك اسمه, وقت أن سلم موسي النبي وصاياه, كانت تنقسم إلي قسمين, وهما:
القسم الأول, خاص بالله والإنسان, أما عن القسم الثاني, فهو خاص بالإنسان وأخيه الإنسان.
والذي يحفظ هذه الوصايا, يعيش في سلام مع الله ومع نفسه ومع الآخرين أيضا, ولذا قال الرب: ليتك أصغيت لوصاياي, فكان كنهر سلامك, وبرك كلجج البحر (إش48:18).
ومرة ثانية قال: يا ابني لا تنس شريعتي, بل ليحفظ قلبك وصاياي. فإنها تزيدك طول أيام, وسني حياة وسلام (أم3:1, 2).
أما عن الذي يتعدي وصاياه, فيكون قد تعدي علي الله, وعلي نفسه, وعلي الآخرين أيضا, ويحيا في خوف ورعب نتيجة لكسره الوصايا, والتي تترتب عليها العقوبات, من الله للإنسان.
فإذا حفظ الوصايا خير مساعد علي وجود السلام, أما عن كسرها فهي أسرع طريقة لوجود الشر وتعدد الخطيئة والمشاكل بين الناس.
4- ومن الطرق المهمة والجوهرية في الحصول للسلام, حياة الإيمان والاتكال علي الله.
إذا تحلي الإنسان بالإيمان داخله, يعيش في سلام وهو في أصعب الأوقات.
ويري بعين الإيمان: غير المستطاع عند الناس, مستطاع عند الله (لو18:25), (مر10:27), (مت19:26).
وإن لكل مشكلة ولكل ضيقة طرقا كثيرة ووقتا أيضا في علاجها أمام الله, كما يذكر الكتاب: لكل شيء زمان, ولكل أمر تحت السموات وقت (جا3:1), (جا8:6).
ومع ذلك توفر الإيمان داخل الإنسان يجعله يلقي كل مشاكله وهمومه ومتاعبه علي الله ويتكل عليه في حلولها.
ولكن ضعف أو فقدان الإيمان بقوة الله وبمواعيده الصادقة عند بعض الناس, يحول حياتهم إلي جحيم وخوف واضطراب وقلق ويأس.. إلخ. وكل هذه الأمور لها تأثيرها علي سلام الإنسان.
5- وفي سياق الحديث عن الطرق التي تقود الإنسان إلي السلام, نقول أيضا إنه يحتاج التوعية الدينية.
لا أحد يستطيع أن يستثني دور التوعية الدينية في إيجاد السلام للفرد وللمجتمع أيضا لأنه في التوعية الدينية للناس يجب أن يعرفوا ما هو الصحيح وما هو الخطأ؟!
وأيضا يجب أن يعرفوا أن التدين هو حياة وسلوك, لا مجرد فرائض أو ممارسات خارجية, لا مساس لها بداخلهم أو بدفة حياتهم وعلاقتهم مع الآخرين.
6- ومن متطلبات السلام, الرجاء وعدم اليأس.
بلا شك السلام بين الناس له فوائد كثيرة في شتي نواحي حياتهم.
ولأجل هذه الفوائد يقف الشيطان بالمرصاد ومعه أعوانه الناس الأشرار لأجل عرقلة السلام الذي يعود بالفائدة والخير علي الجميع بما فيهم الناس الذي يعرقلون مسيرته.
فضعوا إذا في أذهانكم قاعدة وجود المقاومين والعقبات أمام كل عمل خير سواء كان سلاما أو غيره, وبهذه القاعدة تستريحوا ويكون داخلكم رجاء وعدم يأس.
7- وإلي جوار ذلك, السلام يلزمه الثبات والصمود في الميدان.
البعض من الناس يظنون أن الله أوجد الإنسان لكي يحيا حياة الرفاهية والراحة دون أية صعاب, ولكن في الحقيقة هذا التفكير خاطئ, لأن الواقع يقول غير هذا كلية!!
فلكل إنسان له مميزاته وعيوبه ومشاكله, وهكذا لكل أسرة ولكل مجتمع ولكل مكان وزمان أيضا.
فحتما إذا يا إخوتي أن تأتي عليكم مشاكل وصعاب في حياتكم فلا تهربوا من الميدان بل اثبتوا واصمدوا وفكروا في حلول واقعية لأجل السلام.
لأن الثبات والصمود في الميدان لا مفر منهما لأجل السلام, وهكذا أيضا علاج المشاكل له دور أساسي في وجود السلام.
8- ولا أنسي أن أشير إلي الأسس التي يستلزمها السلام, عامل الوحدة لا الانقسام.
لا يوجد شيء في الحياة أخطر علي السلام من الانقسام, وعلي سبيل المثال:
الإنسان يتكون من جسد وروح, وحتما أن يكون بينهما صراع, لأن كل واحد يميل إلي طبيعته التي أخذ منها, والقوي هو الذي يغلب. وهذا الصراع ينتج عنه انقسام داخلي للإنسان وفقدان لسلامه, أما إذا سمت الروح وغلبت علي الجسد وميوله, تجعل الجسد أداة طيعة في يدها.
وهكذا بالنسبة للأسرة والمجتمع إذا انقسم كل منهما علي نفسه يهدم ويضيع, ويكون في زمان كان, والرب يصدق علي هذا: كل مملكة منقسمة علي ذاتها تخرب, وكل مدينة أو بيت منقسم علي ذاته لا يثبت (مت12:25), (مر3:24-25), (لو11:17).
وهناك أسر ومجتمعات كثيرة, تفككت وضاعت من وراء الانقسام, ولذلك الوحدة هي العلاج الوحيد لبقاء كل إنسان, وكل أسرة, وكل مجتمع, مع وجود السلام أيضا.
9- وغير ذلك من العوامل المهمة في إيجاد السلام, عامل القيادة في شتي المجالات.
كل إنسان في موضع قيادي له تأثيره الإيجابي والسلبي, في إيجاد السلام بين الناس.
وكلما كان القائد في مركز قيادي كبير كلما كان تأثيره الإيجابي أو السلبي أكبر.
ومن هنا يجب أن تكون هناك حكمة في اختيار القادة أيا كان نوعهم.
10- ومع كل هذا استخدام الأسلوب المناسب في الوقت المناسب, له أهمية كبيرة ولا غني عنه في إيجاد السلام.
ورأينا هذا الأسلوب في خدمة السيد المسيح له المجد, وخدمة الآباء الرسل أيضا.
ولذلك ينصحنا الرسول بولس بهذا الموضوع في قوله: صرت للكل كل شيء, لأخلص علي كل حال قوما (1كو9:22).
في الحقيقة لا تصلح وتيرة واحدة, أو أسلوب واحد في الحياة, لأن الأوقات متغايرة, والأشخاص أيضا مختلفون. وإلي جوار ذلك, المشاكل والأخطاء متعددة, ومتزايدة يوما فيوما.. إلخ.
ومن وراء كل هذا يجب أن نستخدم الأسلوب المناسب لبقاء الإنسانية ووجود السلام بين الجميع.
11- وينبغي أن نعلم الاهتمام بالروحيات والسمائيات خير مساعدة علي ولادة السلام.
وجودنا في الأرض يا إخوتي, ما هو إلا فترة مؤقتة, وسوف تنتهي بعد حين, إن أردنا أو لم نرد, والهدف منها إعداد أنفسنا للآخرة الصالحة والأبدية السعيدة.
فلماذا نتنازع علي الأمور الأرضية المؤقتة الفانية والتي سوف نتركها بمفارقتنا للأرض؟
فإذا ينبغي أن نهتم بروحياتنا, لكي تشبع نفوسنا بالله ونسمو فوق الأمور الأرضية ولا يكون لدينا وقت للتفكير فيها بل وأزيد من ذلك تكون في نظرنا بمثابة أمور فانية ولا تؤثر علي سلامنا.
12- وأخيرا أقول لكم, إذا توفرت الحكمة مع الوقت والمتابعة, يتوفر السلام أيضا.
وتأكيد علي هذا, قال الرسول بولس: فلنعكف إذا علي ما هو للسلام, وما هو للبنيان, بعضنا لبعض (رو14:19).
رابعا: ثمار السلام
السلام له ثمار كثيرة في حياتنا, وحياة الآخرين, ولكن لضيق الوقت لا أستطيع أن أتكلم عنها بالتفصيل, إنما أذكرها كرؤوس نقاط, مع نصوصها الكتابية للرجوع إليها إن أردتم, ومن بينها:
1- إزالة الخوف والاضطراب والرهبة (تك43:23), (دا10:19), (مت28:9, 10), (لو24:36-38), (يو20:19, 21, 26), (يو14:27).
2- وأيضا من ثمار السلام, الفرح والبركة والنجاة والراحة (رو14:17), (أم12:20), (مز29:11), (عب11:31), (مز122:6-8), (إش57:1, 2).
3- وإلي جوار ذلك, السلام من ثماره, البنيان والتقدم ومخافة الرب, مع التعزية والنمو الروحي (أع9:31).
4- ومن ثمار السلام أيضا, الأمان مع حفظ الوحدانية بين الناس (إر33:5-7), (أف4:3).
5- كما أنه علامة للطمأنينة, وعدم الغدر (1أي12:18).
6- وبالإضافة إلي كل هذا, ثمار السلام الإنسان, خير شاهد علي وجود الله معه, وبنوته له (2كو13:1), (مت5:9).
7- وفي سياق الحديث, عن ثمار السلام, نقول عنه: إنه خير دليل علي ثمار البر, مع ثمار الروح القدس, داخل الإنسان (يع3:18), (رو14:17), (غل5:22, 23).
8- ونفهم أيضا من ثمار السلام, إنه ثمرة من ثمار حفظ الوصايا الإلهية, والفضائل الروحية بين الناس الصالحين (أم3:1, 2), (مز119:165), (إش48:18, 19), (أف6:13-15), (مت5:16).
9- وأخيرا السلام يساعدنا علي معاينة الرب, وميراث الحياة الأبدية الصالحة (عب12:14), (1بط3:10-13).
راجيا لكم ولجميع الناس ولكل العالم, من إله السلام, سلاما يفوق كل عقل.
وكل عام وأنتم بخير.
له المجد الدائم.
بنعمة الله