يحتل الدين مكانة بارزة فى حياة الأفراد والجماعات، وهو أمر لا يخلو منه مجتمع من المجتمعات بما فى ذلك المجتمعات الموصوفة بكونها علمانية. كما أن الدين لا يقتصر على كونه حالة روحانية إيمانية، بل إنه، وخاصة فى المجتمعات الإسلامية، يعد ظاهرة اجتماعية وسياسية، فالدين عنصر فاعل على مستوى تنظيم حياة الأفراد فى المجالين والعام والخاص، وفى مجال الأحوال الشخصية على وجه الخصوص، وإذا نظرنا إلى تفاصيل الحياة اليومية من منظور المعاملات والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الجنسية، وحتى الممارسات الشخصية مثل قواعد النظافة والتطهر، سنجد أن التعاليم الدينية حاضرة وبكثافة لدى البعض. وعلى الصعيد السياسى، فإن الأديان لم تكن خارج حلبة السياسة فثمة دائما علاقة قوية تربط الدين بالسياسة إما كتابع أو متبوع. وباختصار فإن الظاهرة الدينية لها حضور شامل فى كافة مناحى الحياة صغرت أم كبرت.
ولكن ما هو تعريف الدين حتى نتمكن من استجلاء علاقته بالثقافة؟للكلمة معناها الدنيوى المرتبط بالمعاملات، ومعناها الروحى المرتبط بالمقدس والاعتقاد. فحسب “معجم مصطلحات الفقه الإسلامى وأصوله” فإن معنى كلمة “دين” Debt لغويا يرتبط بالمعاملات “مصدر دان يدين: ما أقرضتَه وأعطيتَه لأجَلٍ وأنت الدائن، وأدان دينا: أخذ المال لأجَلٍ هو المَدِينُ. وإصطلاحا، فإن كلمة دين تعنى “لزوم حق فى الذمة، فيشمل الحق المالى والحقوق غير المالية للناس، أو لله تعالى كصلاة فائتة، وزكاة وصيام، كما يشمل ما ثبت بسبب مشروع كالغرامات والديات والنذر، وهو ما يعرف بدين الله”، والذى يعنى لغةً “ما يجب الوفاء به من حقوق الله تعالى”.
ولكن الدين كمعتقد Religion له معنى أوسع فهو يعنى الالتزام بفروض وعبادات وأخلاقيات، كما يعنى الانتماء إلى هوية دينية. فالكلمة بهذا المعنى تتضمن دلالات اعتقادية وروحانية واجتماعية، حيث تعنى “مجموعة معتقدات وعبادات مقدسة تؤمن بها جماعة معينة، يسد حاجة الفرد والمجتمع على السواء، أساسه الوجدان، وللعقل مجال فيه. يقول الجرجانى: “الدين وضع إلهى يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول صلى الله عليه وسلم”. وإذا كان هذا التعريف يغطى الجانب الاعتقادى والإيمانى، فإن لكلمة الدين، مرادف وفق المعجم الفلسفى لمجمع اللغة العربية، وهى كلمة الملة: “الدين والملة متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار، فالشريعة من حيث تطاع تسمى دينا، ومن حيث تجمع الناس تسمى ملة. قال الفارابى: “الدين والملة يكونان إسمين مترادفين”.
ومن منظور العلوم الاجتماعية فقد عرفت المدرسة الاجتماعية الدين بأنه “مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات المتصلة بالعالم القدسى والتى تنظم سلوك الإنسان حيال هذا العالم بحيث تؤلف هذه المجموعة وحدة دينية تنظم حياة كل من يؤمنون بها”. ووفق هذا التعريف، فإن المقصود بالدين منظومة عقائد تشكل “مجموعة التصورات الفكرية المشتركة التى تؤمن بها جماعة إنسانية (يقابلها عند المسلمين الأصول)، والعبادات وهى عبارة عن الطقوس والشعائر والعمليات التعبدية” [د. مهدى محمد القصاص: علم الاجتماع الدينى].
ومن خلال هذه التعريفات المختلفة يمكن القول أن الدين هو حالة دائمة من الالتزام بالأوامر الإلهية، والوفاء بالفروض التى تضمنتها الشرائع، والانتماء (أى الملة) إلى الجماعة التى تعتنق هذا الدين. وينطبق هذا على كافة الأديان وإن بسبل مختلفة. ولكن لكل من الوفاء بالدين والانتماء للملة جوانب اجتماعية، أى أن لها جوانب تتعلق بتنظيم وضبط علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة ذات الهوية الدينية المحددة بالجماعات الأخرى.
ومن المنظور الثقافى، فإن وجود الأديان داخل المجال الثقافى الواسع اقتضى من الأديان أن ترسم حدودها وتكون فى منزلة تتناسب وطابعها القدسى. وبالفعل فإن الأديان لها مكانتها وخصوصيتها داخل المجال الثقافى لإرتباطها بالمقدس، وهو ما لا تحظى به المكونات الثقافية الأخرى كالفنون والآداب وغير ذلك من تعبيرات ومنتجات ثقافية. ومع ذلك، فهذا لا يعنى أن الأديان منفصلة عن المكونات الثقافية الأخرى، بل إن هناك دائما نقاط التقاء واختلاف، وتواصل وانقطاع، ويتح٨٩٠دد مدى هذا التفاعل نتيجة العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية، فعندما يرتبط الدين بالسياسة، يكون للخطاب الدينى حضورا كثيفا فى كثير من الأحيان، ويصبح أحد العناصر الأساسية فى بناء هوية الجماعة، وذلك على عكس الأنظمة العلمانية القائمة على الفصل بين الدين والدولة وفيها تتقلص مساحة الخطاب الدينى ويتم ترسيم الحدود بينه وبين المكونات الثقافية الأخرى.
ومن المعروف أن الأديان وحتى المذاهب الدينية تختلف عن بعضها فى الجوانب المتعلقة بالطقوس والعبادات والانتماءـ وهذه الاختلافات هى التى تعطى للدين أو للمذهب هويته وتمايزه، فقد نجد الكثير من الاختلافات مع أن جميع الأديان تتشابه فى القيم والمبادئ الأخلاقية الأساسية. وفى الحقيقة أن هذا الأمر له أهميته عند معالجة الخطابات الدينية، فهو خطاب روحانى فى أحد جوانبه، ولكنه أيضا خطاب هوية، وأحيانا ما يتم تقليص البعد الروحانى لصالح التركيز على الهوية، وهذا أمر شائع، وتزداد حدته فى الخطابات المحافظة وتلك الموجهة سياسا حيث يصبح الحفاظ على الهوية هو الجانب المقدس فى الخطاب الدينى.