تحدثنا في المقالة السابقة الثامنة عن مي زيادة وصالونها الأدبي الكبير في القاهرة وضيوفه من الباشاوات كبار القوم والقضايا المهمة التي كان يناقشها أسبوعيا مساء كل ثلاثاء. قلنا أن شخصية مي كانت تجذب الجميع لها يطلبون ودها ويتقربون إليها وياحبذا لو أوقعوها في حبهم, لكنها كانت شخصية قوية اهتمامها بالعلم والأدب والأخلاق هو كل حياتها, ومع ذلك فقد استجابت لحب عباس محمود العقاد, وسرعان ما اكتشفت أنه مجرد إنسان يريد أن يعقد صلة بإنسانة مشهورة مثقفة قوية تناقشه في القضايا الأدبية والسياسية مناقشة الند للند, وأنه علي صلة بامرأة أخري دون وفاء وإخلاص لها, ثم قطعت صلتها به وبخاصة بعد أن عبر عن رأيه الحقيقي في المرأة بأنها خلقت للطاعة وأن الرجل خلق للسيادة والتسلط, وهو رأي غريب علي رجل مثقف مستنير. العجيب أن العقاد كان يغير علي مي من المعجبين والمحبين لها الآخرين مثل: أحمد لطفي السيد ومصطفي صادق الرافعي وولي الدين يكن وغيرهم وبخاصة الشاعر جبران خليل جبران. هنا يجب أن نذكر ما كتبه الدكتور طه حسين عن مي وصالونها وشخصيتها يقول: من الحق أن نشير إلي أن هذه الأديبة ظلت عذراء متبتلة طيلة حياتها, كما ينعقد إجماع الباحثين علي أن هذا التبتل جزء من أسطورتها. كما هو جزء من محنتها.
وأريد أن أذكر رأي السيدة هدي شعراوي أيضا في مسألة جمال مي زيادة تقول السيدة هدي في وصف مي: [لم تكن مي علي وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعني الصحيح للجمال] ربما يجعلنا هذا الرأي نقترب من حقيقة وأسطورة مي التي أحبها الجميع كظاهرة اجتماعية وفتاة مثقفة متحررة في زمن الحريم والحجاب.
أرسل شاعرنا الكبير جبران خليل جبران 1883 ـ 1931م لمي سنة 1913 مؤلفه.. الأجنحة المنكسرة.. فقرأته وعلقت عليه واختلفت معه في رأيه قالت في رسالة أرسلتها له: أتفق معك في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة.. فمثل الرجل يجب أن تكون المرأة مطلقة الحرية بانتخاب واختيار زوجها من بين الشباب, متبعة في ذلك ميولها وإلهاماتها الشخصية, لا مكيفة حياتها في القالب الذي اختاره لها الجيران والأقارب والمعارف, حتي إذا اختارت شريكا لها تقيدت بواجبات تلك الشركة العمرانية تقيدا تماما.
كانت هذه أول رسالة من مي إلي جبران بعدها كثرت الرسائل بينهما, وفي إحدي هذه الرسائل قال جبران: [ما أجمل رسائلك يامي وما أشهاها, فهي مثل نهر من الرحيق يتدفق من الأعالي, ويسير مترنما في وادي أحلامي, بل هي كالأوتار.. في إحدي هذه الرسائل المتبادلة بينهما اتفقت مي مع جبران علي لقا, وبخاصة أن جبران كان قد ضجر ومل من حياة المهجر في أمريكا, علي أن يكون اللقاء في نيويورك أو القاهرة حتي يتم الزواج تتويجا للحب الذي استمر عدة سنوات بينهما. لكن هذه الأمنية الغالية لم تتحقق وظل الحب علي الورق. كان جبران شاعرا عربيا ومفكرا وأديبا متحضرا, كما كان فنانا رساما بارعا في سنة 1908م سافر إلي باريس ليكمل موهبته الفنية, فعاش ثلاث سنوات هناك حصل بعدها علي جائزة عالمية في التصوير من معهد الفنون الجميلة وفاق كل زملائه, اتصل في باريس بالفنان العملاق (رودان) وصادقه وأخذ منه بساطته وعظمته وهيبته ووداعته, وسمع منه عن الشاعر الفنان الإنجليزي (وليام بليك) وكيف التقي فيه الفن والشعر والتصوير, وتمني جبران أن يكون مثله, وفعلا التقي في جبران الشعر الجميل والفن الأصيل, لعلنا نتذكر كلماته الغنائية الرائعة:
أعطني الناي وغن
وأنين الناي يبقي
أعطني الناي وغن
إنما الناس سطور
فالغناء سر الخلود
بعد أن يفني الوجود
وأنس داء ودواء
كتبت لكن بماء
إنه أحد شعراءالمهجر العربي العباقرة الذي أسس: الرابطة القلمية بنيويورك فاختاروه عميدا لها تكريما له, من أشهر أعماله: النبي, رمل وزبد, والتائه, والمجنون, وعيسي ابن الإنسان. من يريد المزيد عن جبران خليل جبران يمكن أن يعود لكتاب الشعر العربي في المهجر تأليف محمد عبدالغني حسن.
* في سنة 1921 أرسل جبران الرسالة التالية إلي مي:
عزيزتي مي.. في عقيدتي أنه إذا كان لابد من السيادة في هذا العالم, فالسيادة يجب أن تكون للمرأة, لا للرجل أنا مدين بكل ماهو أنا منذ أن كنت طفلا حتي الساعة.. والمرأة تفتح النوافذ في مصيري, والأبواب في روحي.. ولولا المرأة الأم, والمرأة الشقيقة, والمرأة الصديقة, لبقيت هاجعا مع هؤلاء النائمين الذين يشوشون سكينة العالم بغطيطهم.. هذا رأي شاعرنا الكبير الفنان الرسام العبقري جبران خليل حبران في المرأة أنها هي الأصل وأنها هي التي يجب أن تسود فهي التي تفتح أبواب الحياة للرجل وهي التي تأخذ بيده إلي الحب والسعادة والإنسانية.
لم يلتق الحبيبان ولكن الرسائل كانت وسيلة اللقاء في عام 1925 أرسل لها جبران هدية مع الرسالة هي محفظة يد ومرآة وقلم جميل وصورة يد رسمها بريشته, فقد كان رساما وموسيقيا أيضا. وردت عليه قائلة.. جبران.. ياصديقي الحلو الرقيق الكريم, كن مباركا لأجل عطفك ولأنك ترغب في إدخال السرور إلي نفسي, هذه الهدية هي الروح التي تحتضني وتذكرني بك.. استمرت مي في مراسلة جبران في سنواته الأخيرة وحتي رحل عن عالمنا عام 1931 فهرعت لترثيه قائلة:
يا أخي لقد أعطيت كثيرا, وقال فيك الشرق للغرب هأنذا, كما قال فيك الشرق الناهض لنفسه هأنذا.. حسنا فعلت بأن رحلت.. ومازلنا نتحدث عن المرأة إلي لقاء..