اهتم الإنسان منذ وجوده في هذا العالم بكل القضايا الخاصة به, قضية الغذاء والصحة والمسكن وتربية الأطفال والتعليم والزراعة والصناعة والأمن والسلام. ونسي الإنسان نفسه كإنسان ولم يهتم بالقضية الكبري في وجوده وهي قضية المرأة!! نسي الإنسان أن الإنسان هو الرجل والمرأة, وأن الله خلقهما متساويين تماما, وبخاصة في العقل, وهو هدية الله للبشر. اعتقد الإنسان أن الإنسان هو الرجل وحسب وأهمل وتجاهل المعني الحقيقي للإنسان, كما خلقه الخالق العظيم. الإنسان هو الرجل والمرأة, ولا فضل للرجل علي المرأة, ولا فضل للمرأة علي الرجل, الاثنان مكملان لبعضهما, ولهما رسالة واحدة هي تعمير العالم ونشر الخير والنماء فيه, وإسعاد كل منهما للآخر, نسي وتجاهل الرجل كل هذا وتجبر وتسيد علي المرأة وجعل منها ـ للأسف ـ خادمة له واستخدم معها العنف بكل أنواعه, العنف الجسدي والنفسي والجنسي والاجتماعي وغيره. لم يع الرجل أنه بذلك يؤذي نفسه وابناءه ومجتمعه, ومن هنا تخلف المجتمع الإنساني عدة قرون لإهماله المرأة واستخدامه العنف ضدها.
حدث هذا في كل دول العالم ومع جميع الشعوب بدرجات متفاوتة. حتي الدول المتمدنة والمتحضرة لم تنج المرأة فيها من الاضطهاد والعذاب والمعاناة. كان طبيعيا أن يعبر الفن التشكيلي العالمي عن هذه القضية الإنسانية المأساوية, وهي قضية إهمال المرأة واعتبارها ـ جهلا وتكبرا ـ أنها أقل من الرجل فكرا وحكمة وخلقا فرأينا فنان عصر النهضة الأوروبية: ليوناردو دا فنشي 1452 ـ 1519م يقدم لنا إحدي رائعاته تعبر عن هذه القضية بل وتوثقها. الغريب أن الموضوع جاء مصادفة. فقد اشتهر فناننا ببراعته في رسم البورتريه, وجوه الأشخاص, وتكالب عليه صفوة القوم في فلورنسا طالبين منه رسم لوحة لهم. من هؤلاء شخص يدعي.. فرانشيسكو دي جيوكوندا وكان ضابطا متغطرسا عرف عنه أخلاقه السيئة وحبه للنساء وكثرة زيجاته, وأتم الفنان عمل اللوحة للرجل الخاصة به, ومن كثرة إعجابه باللوحة طلب من ليوناردو عمل لوحة أخري لزوجته. السيدة ليزا جيرار ديني فوافق الفنان.
كانت ليزا صغيرة تبلغ من العمر ستة عشر عاما, وعلي الرغم من صغرها رفضت الزواج في البداية لكنها أرغمت عليه وتم الزواج عام 1495, وكانت هي الزوجة الثالثة لجيوكوندا كان عمره 35 عاما أي كان أكثر من ضعف عمرها. لم يستطع الرجل أن يغير من سلوكه السئ وعدم احترامه لزوجته, بل اعتباره المرأة مجرد خادمة أو سلعة اشتراها عندما تزوجها, عامل جيوكوندا ليزا معاملة سيئة قاسية همجية, كانت هي زوجة صالحة لكنه لم يستوعب ذلك, وتطاول في إهانتها فأخذ يأتي بصديقاته إلي البيت ويأمر زوجته بخدمتهن وهو يطارحن الغرام والمسخرة. كان زوجا سيئا بمعني الكلمة وكانت هي صابرة هادئة مطيعة.
حلس الفنان مع صاحبة اللوحة الجديدة ليرسمها, وكانت خبرته كبيرة في الغوص في نفوس الإنسان الذي يرسمه يتعمق ليتعرف علي حياته ويخرج كل ما بداخله علي وجهه في اللوحة… احتار ليوناردو في شخصية ليزا فهي شابة صغيرة تتمتع بالشباب وزوجها مقتدر وثري لكنها غامضة لها ضحكة خفيفة لكنها حزينة, أخذ يبحث بطرقه المختلفة عن سبب هذا الحزن الدفين, وظل يجلس أمام ليزا مدة طويلة بلغت أربع سنوات حتي شعر زوجها من بنوع من الغيرة والقلق فطلب منه أن يسرع في الانتهاء من رسم اللوحة, في نفس الوقت أحضر فرقة موسيقية بحجة أن الموسيقي تخلق جوا من المرح والفرح يمكن أن يجعل الفنان وزوجته ليزا في حال جيدة, لكنه في الواقع فعل ذلك حتي يراقب الوضع ويتجسس عليهما.. استطاع الفنان بخبرته ونظرات ليزا والأخبار التي وصلت إليه يعرف كل شيء عنها وعن معاناتها مع زوجها الإنسان غير السوي الشخصية والهمجي في تصرفاته, كما استطاع أيضا أن يبدع في لوحته التي أسماها موناليزا حتي أصبحت إحدي اللوحات التاريخية العالمية الموجودة الآن في متحف (اللوفر) في باريس عاصمة النور.
انتهي ليوناردو دا فنشي عام 1503 من رسم اللوحة, وأمام إلحاح الزوج جيوكوندا في الانتهاء منها طلب منه أن يأخذ اللوحة معه إلي بيته ليضع الرتوش الأخيرة لها, وكان هدف الفنان هو أن يحتفظ باللوحة لنفسه.
ذكري سيدة فاضلة عرفها فرسمها وعبر عن مأساتها دون أن يتكلم معها بل كانت كل علاقته بها وحواره معها بلغة العيون, تعاطف معها ويقال إنه أحبها واستخسر اللوحة في زوجها السئ وأصبحت فنا راقيا معبراعن مأساة المرأة ومعاناتها مع الرجل عبر الأمان والعصور والمكان وتظل المرأة أيقونة الإنسانية المعذبة.
وإلي لقاء قادم لنستكمل حديثنا عنها.