بمناسبة أعياد سر التجسّد : الميلاد والظهور الإلهي ( الغطاس ) ، علينا أن نتعمّق في دور مريم العذراء في مخطّط الله الآب السماوي لإنقاذ البشريّة من رهبة الموت وشموليته.
المجمع الفاتيكاني الثاني سلَّط الضوء على أُمّ الله المتجسّد وأُمّنا العذراء مريم بفصل شهير خصه بها تحت عنوان : ” الطوباوية مريم أُمّ الله في سر المسيح والكنيسة ” ( راجع دستور في الكنيسة من العدد ٥٢ إلى العدد ٦٩ ) .
** ما دور وفضل العذراء مريم في سر الخلاص ؟
إنّ فضلها كبير جداً ، لأنّها بسبب عُمقِ شخصيتها ووسع إيمانها وبساطتها قبلت إرادة الله في حياتها دون شرط ولا قيد ، وحتى وإنها لم تفهمها كُلِّها في بدايةِ الأمر .
” النعم ” التي قالتها للملاك ” أنا أُمَّةُ الرّبّ ، فليكن لي بِحَسَبِ قَولِكَ ” ( لوقا ١ : ٣٨ ) ، لا يُقابلها بضخامةِ مفعولها إلاّ ال ” لا ” التي يقولها كُلّ منّا ، ومع الأسف ، عندما تشتد عليه ظروف الحياة ومشاكلها وصعوباتها … هذه النَعَم إلتزمت بها العذراء مريم في أقسى ظروفِ حياتها وأشدّها ضرورةً . لذا استحقّت وهي واقفة من قرب الصليب ، أن تسمع ومن المصلوب نفسه إبنها الفادي ، كلمة من أجمل وأعمق الكلمات السبع التي قالها يسوع قبل أن يُسلّم الروح : ” أيّتُها المرأة هذا إبنُكِ ” . ثمَّ قال للتِّلميذ : ” يا يوحنا هذه أُمُّكَ ” ( يوحنا ١٩ : ٢٦ – ٢٧ ) .
فبالنَعَم ْ الأولى ( لوقا ١ : ٣٨ ) ، قبِلَت مريم أن تُصبح هيكل الروح القدس الجديد ( دستور الكنيسة عدد ٥٢ ) ، وبكلمة المصلوب فتحت هذا الهيكل أمام بني البشر جميعاً وبدون تميز ليدخل إليه من يشاء بواسطة أمومة مريم لينجو من الموت وسلطانه .
هكذا استعمل الله نفس الأدوات التي أدّت إلى موتِنا لإعادة الخلود والحياة إلينا .
وهذه الأدوات هي : الإنسان والمرأة والخشبة .
** في الاولى :
– الإنسان الأول آدم : أي المأخوذ من التراب ” وجَبَلَ الرّبُّ الإله الإنسان تُراباً من الأرض ونفَخَ في أنفِهِ نَسَمَةَ الحياة ، فصارَ الإنسان نَفْساً حيَّة ” ( تكوين ٢ : ٧ ) .
– وحواء المرأة الأولى : التي كان من المفروض أن تُعطي الحياة لكُلِّ حيّ حسب دلالة إسمها ” حواء لإنَّها أُمُّ كُلِّ حَيٌّ ” ( تكوين ٣ : ٢٠ ) .
– والخشبة : شجرة الحياة التي تحوّلت مع الإنسان إلى شجرةِ الموت ” وأمّا شجرةُ معرفةِ الخير والشّرّ فلا تأكُلْ منها ، فإنكَ يَوْمَ تأكُلُ منها تموتُ موتاً ” ( تكوين ٢ : ١٧ ) ، لإنّ الإنسان أرادها دون الله . ونسي الإنسان الشقيّ أن الحياة هي الله ، وان البُعد عَنهُ ، بُعد عن الحياة الحقّٰة ، فلا يبقى إلاّ الموت .
** وفي الثانية :
– الانسان هو المسيح الذي ” في ملء الزمن ولِدَ من إمرأة ” ( غلاطية ٤ : ٤ ) ، ليتبع دورة العمر الي يتبعها كل إنسان
بشري . وسُمي ” إبن البشر ” ليطال إلى كُلِّ إنسان بُشرى الخلاص مهما كان جنسه او عرقه ، منبوذاً أو مُهملاً .
– والعذراء ” حواء الجديدة ” : هي مريم التي ارتفعت بإرادة الله فوق نساء العالمين كونها أصبحت أُمّ الله ” لا تخافي يا مَرْيَم ، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله . فستَحمِلينَ وتلدينَ ابناً فسَمِّهِ يسوع … لذلك يكونُ المولودُ قُدُّوساً وابن اللهِ يُدعى ” ( لوقا ١ : ٣٠ – ٣٥ )
– والخشبة : هي الصليب الذي تحوّل من عودٍ يابس إلى عود مُعطي وعد القيامة بالحياة لكل دم يلمسه كما لمست حواء عود شجرةِ الحياة ( الحوار مع تريفون ) . من هنا إنطلق باقي آباء الكنيسة في تفكيرهم المريمي وكلّه يتسم بشمولية النظرة وعمق التفكير الخلاصي . فإكرام مريم ينطلق من إتحادها بالمسيح عبر ما تكلّم عنه الكتاب المقدّس لا من باب التكهنات والاستلهامات .
قال مار افرام السرياني : ” بتولتان هديّة الجنس البشري ، واحدة علّة الموت : حواء ، وواحدة علّة الحياة : مريم ” ( الطوباوية مريم ٢ ) .
وقال ايضاً عن العذراء مريم في شرح سلسلة المواضيع والآيات الواردة في العهد القديم وكلّها تُشير إلى مريم العذراء البتول :
” الأُمّ البشرية الحاملة الله في أحشائها ، قال : صارت مريم عدن الجديدة ، حيث سكن آدم الجديد وصارت عُليقة موسى تحمل شعلة الالوهية ولا تحترق ” ، ” لكنّ مَلاَك الرّبِّ نَزَلَ إلى الأتُّونِ مع عَزَرْيا وأصحابِهِ وطردَ لَهيبَ النّارِ عن الأتُّون ، وجعلَ وسطَ الأتُّونِ ما يُشبِهُ نَسيمَ الَّندى المُنعِش ، فلم تَمَسَّهمُ النّارُ البّتَّةَ ولم تُصِبْهم بأَذى أو ضَرَر ( دانيال ٣ : ٤٩ – ٥٠ ) ، ” … يُقيمُ إلهُ السَّماءِ مَملَكَةً لا تُنقَضُ للأبدِ … وهي تَثبُتُ للأبَدِ ، كما أنَّكَ رايتَ أَنَّ حجراً انفَصَلَ عن الجبل ، لا بِقُوَّةِ اليدين … ” ( دانيال : ٢ : ٤٤ – ٤٥ ) دانيال الذي قطع الجبَل بدون يدٍ بشرية ، رمز إلى حجر الزاوية ، والحجر هو المسيح يسوع .
وصارت ضياء ابراهيم حيث ينزل الله إلى الأرض ويصعد الإنسان إلى السماء .
وفي العهد الجديد ، وَمِن خلال بشارة الملاك جبرائيل للعذراء ( لوقا ١ : ٢٦ – ٣٨ ) ، بيّن لنا القديس لوقا كيف تحولّت مريم من صبيّةٍ عاديّة ومِن مدينةٍ منسيّة في الجليل إسمُها النّاصرة ، إلى هيكلٍ مقدّس ، وهذا هو أول هيكلٍ يحضن الرُّوح القُدُس ، روح الله وقوة الله ( لوقا ١ : ٣٥ ) ، وأول بيت قربان يحملُ جسد المسيح ” فَسَتحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يسوع ” ( لوقا ١ : ٣١ ) .
كما تظهر هذه المرأة ” حواء الجديدة ” في عُرس قانا الجليل ، وبناءً على طلبها أجرى يسوع أولى معجزاته فحوّل الماء الذي يرمز إلى الحياة إلى خمر ( يوحنا ٢ : ١ – ١٢ ) ، والخمر يرمز إلى ذبيحة السيد المسيح التي تعطي الحياة الأبدية .
كُلّ هذا تمَّ بفضلِ المرأة التي أُخِذت من إمرئٍ لتعطي الحياة لكل حيّ ، وأخذت من النائم على الصليب الحياة لتعطي القيامة وحياة الله لكُلِّ مولود من الله ” أَمَّا الّذين قَبِلوه وهُمُ الَّذين يُؤْمِنُونَ باسمِهِ ، فقد مَكَّنَهم أن يَصيروا أبناء الله :
فهُمُ الَّذِينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لحْمٍ ، ولا مِن رَغبَةِ رَجُلٍ بل مِنَ اللهِ وُلِدوا ” ( يوحنا ١ : ١٢ – ١٣ ) .
مِن هنا استحقّت هذه الأُمّ أن تكون المرأة الكاملة الملتفته بكُلّيتِها إلى الله .
إنّ أمومة مريم لنا نحن البشر ، أعطتنا نقاط الدم الذي تساقطت يوم الجمعة العظيمة على أرض الجلجلة ، وأصبح ذلك اليوم العظيم ، عندما ” صاح يسوع بأعلى صوته وقال : يا أبتِ ، في يَدَيكَ أجعلُ روحي ! ” قال هذا ولفَظَ الرُّوح ” ( لوقا ٢٣ : ٤٤ ) اليوم السادس الذي خُلِقَ الإنسان مُجدّداً على صورةِ الله أي لا يموت ، وهذا بفضلِ مريم . ومن التي اؤتمنت على ” الكلمة الذي صارَ بشراً فسَكَنَ بَيْنَنا ” ( يوحنا ١ : ١٤ ) ، أمّنَتنا بدورها على هذه الكلمة المتجسّد منها : ” أستودِعُكَ هذه الوصيّة ، إحفظ الوديعة ، وهي أنّ المسيحَ يسوعَ جاء إلى العالم ليُخَلِّصَ جميع الناس ويَبلُغوا إلى معرفةِ الحقِّ ” ( طيموتاوس الأُولى ٢ : ٤ ) ، وطلبت منّا أن نعطي وبسخاء العالم كلّه كلمة الله كما أعطتنا هي ، أي بإعطاء حياتها مع الإيمان والمحبّة المسيح يسوع . وأن نقبل بإرادة الله في حياتنا مهما كانت الظروف .
لنجعل في صدورنا زاويةً لهذه الأُمّ الإلهية لتكلمنا فيها عن إبنها يسوع وعن طريقة تقدمته وإعطائه للعالم من خلال رسالتنا المريميّة ” لتُعلَنَ البِشارة على أحسنٍ وجهٍ ويسمعها جميعُ الوَثنييِّن ” ( طيموتاوس الثانية ٤ : ١٧ ) .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك