تناولنا في المقال السابق الدلالات اللغوية لكلمتى “الفطرة” و”الغريزة” حيث تم الإشارة إلى أن كلمة الفطرة تتماثل لغويا مع كلمة الغريزة في كثير من الجوانب، ومع ذلك فإن الفطرة ذات دلالات إيجابية في حين أن الغريزة أو الغرائز ذات دلالات سلبية في الغالب، وعندما نتحدث عن الفطرة ننسبها في الغالب إلى ما هو إنساني، فنقول الفطرة الإنسانية، أما الغرائز فهي ذات صبغة حيوانية في الغالب. أما السبب الثاني فهو أن كلمة الفطرة التي من المفترض أنها تعبر عن وضع ما قبل ثقافى إلا أنها في بعض الاتجاهات الفلسفية تتضمن ابعادا ثقافية عند الحديث عن “أفكار فطرية”، وفي الخطاب الديني تعبر عن ما هو ثقافي بامتياز، أي الهوية الدينية من ناحية، وهوية النوع أى الفرق بين الرجال والنساء من ناحية أخرى. ولهذا السبب فإن الكلمة رغم بساطتها إلا أنها تعبر عن وربما تثير إشكاليات فكرية.
وفي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية فإن مصطلح “الفطرة” Innate لا يتوافق بشكل كامل مع المصطلحين الآخرين اللذين يحملان نفس الدلالات اللغوية تقريبا وهما الغريزة Instinct، والطبيعة Nature، وهما الأكثر استخداما في مجال العلوم الإنسانية، فمصطلح الغريزة شائع في مجال علم النفس ليعبر عن توجهات مرتبطة بالتكوين الجيني والعصبى ترتبط بدورها بسلوكيات ونزوعات تميز الكائنات الحية وخاصة البشر. أما مصطلح الطبيعة فهو أكثر استخداما فى مجال العلوم الاجتماعية للتمييز بين ما هو موروث بالمعنى الجينى وبين ما هو مكتسب بالمعنى الثقافي، ولذا فإن بعض المعاجم تحيل تعريفات الفطرة والغريزة إلى البند المتعلق بالفرق بين الطبيعة والثقافة. ويجب الإشارة إلى أن كل من “الغريزة” و “الطبيعة”، على عكس “الفطرة” يشكلان حلقة وصل بين الإنسان والحيوان من منظور علوم السلوكيات. فمن الشائع الحديث عن غريزة أو طبيعة حيوانية، ولكن نادرا ما نسمع أو نقرأ وصف “فطرة حيوانية”.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن جوهر الجدل المتعلق بهذه المصطلحات يتعلق بدور كل من الموروث والمكتسب في تحديد سلوكيات وتصرفات البشر (أو الحيوانات). فمن ناحية هناك اتجاهات طبيعية تعطى العامل الجينى دورا كبيرا، وفي المقابل هناك اتجاهات، وهى السائدة، تعطي العوامل البيئية والثقافية الدور الأكبر في تكوين وتشكيل الشخصية والسلوكيات. وبين هذا وذاكهناك اتجاهات ترى أن تكوين الشخصية هو حصيلة تفاعل بين الموروث الجينى والمكتسب الثقافي، والحصيلة لا تعنى الجمع بين كم جينى وكم ثقافى، بل لأن الجينات نفسها ذات طبيعة متغيرة وتفاعلية، فهي التي تجعلنا نكتسب ونتطبع بطباع معينة وفق البيئة التى نحيا فيها. وهذا الرأى نجد مثالا له فى كتاب مات ريدلى “الطبع عبر التطبع” والذي يقول فيه: “.. الجينات هي التي تتيح للعقل البشري أن يتعلم ويتذكر ويحاكي ويتخذ سمات، ويتشرب الثقافة ويعبر عن غرائزه. فالجينات ليست محركة الدمى ولا واضعة خط سير العمل، ولا مجرد ناقلات للوراثة، فالجينات نشطة أثناء الحياة تُنشط وتُوقف بعضها البعض، وتتفاعل مع البيئة، وربما تتحكم فى بناء الجسم والعقل فى الرحم ولكنها تسارع فى تفكيك وإعادة بناء ما قامت بعمله – وذلك استجابة للتجربة”.
ولا شك أن هناك فجوة وتباعد بين الخطاب الديني الأخلاقى والخطاب العلمى فيما يتعلق باستخدام مصطلحات “الفطرة”، “الغريزة” و “الطبيعة”، فمن ناحية أولى يشكل مصطلح “الفطرة” ركيزة أساسية فى الخطاب الديني والأخلاقى بشأن الطبيعة البشرية وحتى الهويات الجندرية والعقائدية، وبالمقابل فإن هذا المصطلح يخفت بريقه في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية وتم تركه لعدم صلاحيته كأداة مفاهيمية، أما مصطلح “الطبيعة” الذى لا يحظى بأهمية فى الخطاب الدينى والأخلاقى، فإنه بات يشكل ركيزة أساسية في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويبقى مصطلح “الغريزة” الذى يحتفظ بوجوده فى الخطاب الدينى والأخلاقى (ولكن بدلالات سلبية فى الغالب)، وفى مجال محدد من مجالات العلوم الإنسانية وهو “علم النفس”، وحتى فى هذا المجال فإن مصطلح الغريزة ليس من بين المصطلحات المتماسكة والمفيدة في نظر البعض، حتى أن البعض ينتقد فرويد الذى تحدث عن غريزتى الموت والحياة، بسبب أنه يخلط بين الغريزة والنزوة في بعض الأحيان.
ومن المنظور الحقوقى، فإن تحميل مصطلحى “الفطرة” و”الغريزة” بحمولات ثقافية وأخلاقية وفقهية، قد جعل استخدامهما محفوفا بمخاطر مثل التمييز بين البشر بشكل عام وبين الرجال والنساء بوجه خاص عندما يتم التمسك بفكرة الاختلافات الفطرية لتبرير عدم المساواة، أو اقصاء فئات معينة بزعم وجود خصائص فطرية أو غريزية سلبية. ومن ناحية أخرى، توظيف مفهوم “الغرائز” لفرض قيود صارمة على الحقوق والحريات الشخصية بزعم السيطرة على عليها وترويضها وخاصة الغريزة الجنسية، وربما تكون الممارسات الضارة ضد النساء وفى مقدمتها الختان، من أبرز أشكال الانتهاكات في هذا المجال بسبب النظرة إلى الجسد الطبيعى (الخلقة وصنع الله) للإناث كخطر يحتاج إلى تدخل بشري لتعديله واتقاء شره الغريزى!