نحن نعيش في عالم واحد, مهما اختلفت الحياة داخله, ومهما حاولنا أن نقسمه إلي عالم غني وآخر فقير, أو عالم متحضر وآخر نام, أو عالم متعلم وآخر جاهل. الواقع أننا نعيش فعلا في عالم واحد يتكون من عدة قادات ودول, يتحدثون لغات مختلفة, ويرتدون أزياء متباينة ويأكلون طعاما متنوع الصنعة والإعداد, وملامح الإنسان تختلف من مكان إلي مكان, ومع ذلك فإنه عالم واحد فعلا جوهره وجود الإنسان منذ أقدم الزمان. إنسان الأمس لا يختلف عن إنسان اليوم, ولن يختلف كثيرا عن إنسان الغد. الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان, وعندما نتحدث عن الإنسان فإننا نقصد المرأة والرجل لأن الخالق العظيم خلقهما معا, متساويين تماما, والفرق البيولوجي الحيوي بينهما هو مجرد اختلاف لتستمر الحياة وتعمر بالبشر, بمعني أن لا فضل للرجل علي المرأة ولا فضل للمرأة علي الرجل, والحياة لا تستمر ولا تصلح إلا بكليهما.
العالم الواحد الذي نعيش فيه هو عالم الرجل والمرأة والعمل والتعمير والنظرة المتفائلة للمستقبل والصراع مع الطبيعة والأمراض والأوبئة والزلازل والبراكين, صراع من أجل توفير الغذاء والطعام حتي لا نجد جوعانا واحدا في أي مكان في العالم. ولا نجد مريضا أو محتاجا.
الأسرة البشرية الإنسانية في العالم, مهما تباينت واختلفت فهي أسرة واحدة أفرادها يتمتعون باللون الأبيض والأسمر والأصفر والأحمر والخمري ويتحدثون أيضا اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية والأوردية وغيرها, الإنسانية في حقيقتها أسرة واحدة سعادتها واحدة, طعامها واحد, مشاكلها واحدة, أمراضها واحدة.
لعل ما حدث في السنوات الأخيرة من انتشار وباء الكورونا في كل العالم, الذي هدد الجميع في الدول الكبري والصغري ولم يفرق بين غني وفقير ومتعلم وجاهل, بل متدين وملحد, أصاب الوباء اللعين الجميع وماتت الملايين من البشر, ألا يدل هذا علي أننا فعلا عالم واحد رغم أنف الذين يريدون أن يفرقوا بيننا ويوهمونا أننا مختلفون ونحن أسرة واحدة؟!
قادة العالم عليهم واجب إنساني مهم وخطير في النهوض بهذا العالم. قيادة العالم ليست عملية شرفية ووجاهة بل هي مسئولية خطيرة نحو بلادهم وشعوبهم وشعوب العالم كله, وبخاصة الشعوب النامية والفقيرة, وقد لمسنا هذه المسئولية في قادة العالم القديم, أو في بعضهم, فهل نذكر الإسكندر الأكبر 356-323ق.م القائد العسكري والزعيم الإنسان الذي خرج عن تقاليد عصره وبلاده وآمن بوحدة الجنس البشري, وأن عالمنا عالم واحد, ولا فرق بين إنسان وإنسان؟ ولذلك قام بحملاته وحروبه من أجل توحيد العالم -وإن كانت وسيلة الحرب والقتل والدمار مرفوضة تماما إنسانيا!- في هذا المجال عقد الإسكندر عرسا كبيرا زوج فيه آسيا بأوروبا تم فيه زواج عشرة آلاف يوناني ومقدوني وفارسي, وتزوج هو ابنة القائد الفارسي دارا الثالث. يقول د.طه حسين في كتابه قادة الفكر: كان الإسكندر قائد فكر كما كان قائد جيش, وقد وفق في قيادة الفكر إلي ما لم يوفق إليه في قيادة الجيش..
وهل نذكر أبراهام لنكولن 1805-1865م الرئيس السادس عشر لأمريكا وأول من وضع مبادئ الحرية في الدستور الأمريكي, الرجل الذي حارب من أجل وحدة أمريكا وإلغاء الرق واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان وقال إنه كفر بالله فقد ولد الناس أحرارا.
وهل نذكر الزعيم الهندي الإنسان غاندي؟ 1869-1948م الذي هزم الإمبراطورية البريطانية بهدوئه, وفلسفة الماتيا جراها وهي الحركة البعيدة عن العنف, وهو القائل: حيث يوجد الحب يوجد الله.. وهل تذكرون الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا 1918-2013م؟ الذي كافح وحارب من أجل تحرير بلاده (جنوب أفريقيا) من وباء التعصب (الأبارتيد) صد السود واستطاع أن ينتصر بعد أن سجن 27 عاما وخرج ليكون أول رئيس أسود لبلاده, وكان نبيلا وإنسانا متسامحا لدرجة أن عين الإنسان الذي سجنه وعذبه نائبا لرئيس الجمهورية ولم ينتقم منه! ثم تنازل بعد ذلك عن منصب رئيس الجمهورية حتي يتفرغ لأعماله الإنسانية.
الشعوب مهما تعرضت للظلم والقهر تجد بعض القادة الذين يدافعون عن وجودها وحريتها وسلامها, فبعد أهوال الحرب العالمية الثانية 1939-1945م انتفض المفكرون والعلماء وبعض القادة يدافعون عن بقاء الإنسانية وكان بيان العالم والفيلسوف برتراند راسل 1872-1970 مع عالم النسبية ألبرت أينشتاين 1879-1955م الذي صدر عام 1955 يستنكران استخدام أحدث الأسلحة والتكنولوجيا في قتل وتدمير الحضارة الإنسانية. لم يكتف برتراند راسل بهذا البيان بل أصدر كتابا تحت عنوان: هل للإنسان مستقبل؟ Has man a future, هذا الكتاب أعتقد أنه من الوجب علي كل قادة العالم دراسته جيدا إذا كانوا يشعرون بمسئوليتهم الكبيرة فعلا.. يطالب برتراند راسل بتطوير الأمم المتحدة بحيث تصبح نواة لحكومة عالمية لها سلطة تنفيذية وجيش عالمي قوي محايد, وإلغاء حق الفيتو, وتقسيم العالم إلي مناطق فيدرالية متساوية في عدد السكان بقدر الإمكان, الحكومة العالمية ليس من حقها التدخل في المسائل الداخلية للدول, فكل دولة تختار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني بحرية كاملة. ويقول راسل في النهاية: لابد للعالم أن ينصت إلي صوت العقل والتسامح ولابد من نبذ التعصب الذي يعمي الإنسان عن فضائل غيره فنحن بشر غير منزهين عن الخطأ.
هكذا كان القادة السابقون يفكرون في مستقبل الإنسانية وسلامها وأمنها ورخائها, أما القادة اليوم فلا يهمهم مستقبل الإنسان, أو أقل إن معظمهم لا يعتبر عالمنا عالما واحدا, ولا الإنسانية أسرة واحدة, ومن هنا فهم يهتمون بشعوبهم وأمنها ورخائها وصحتها وحسب, أما باقي الشعوب فهي تجارب فئران, وهي نماذج لإشعال الحرب بينها والاقتتال حتي تستطيع أن تبيع لهم ما تنتجه مصانع الأسلحة الضخمة لديها وهو كله مكسب! هي تربح مليارات الدولارات ولا يهم الدماء الإنسانية البريئة. إنهم يعتبرون الشعوب النامية والفقيرة خارج المنظومة الإنسانية, ليسوا جزءا من العالم ولا أفرادا من الأسرة الإنسانية. الواقع أن بعض قادة العالم الذين يفعلون ذلك ويتاجرون بحرية البشر وحياتهم هم ليسوا من الأسرة الإنسانية!