جعل من الصورة حكاية، ومن الحكاية تاريخ وذكرى دائمة، أربعون عاما وهو البطل الذي لا يمل من استخدامه للأبيض والأسود والظلال معا، هو الشغوف بالكاميرا في شوارع وسط البلد في أربعينيات القرن الماضي.. إنه الفنان المصور الأرمني المصري فان ليو.
طفولته
ولد فان ليو ـ واسمه الأصلي ليفون ألكسندر بويادجيان ـ في تركيا في 20 نوفمبر 1921، ونشأ في ذروة مذابح الأرمن، فاضطرت أسرته إلى الفرار من تركيا إلى مصر سنة 1925، وكان عمر ليفون وقتها لا يتجاوز الرابعة.
جاءت أسرة بويادجيان الى الزقازيق وعاشت هناك ثلاثة ثلاث سنوات قبل أن تنتقل إلى القاهرة سنة 1930، حيث عمل الأب في شركة الترام والتحق ليفون بالمدارس الأرمنية، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1940، غير أنه لم يستكمل دراسته فيها لشغفه بالتصوير الفوتوغرافي وذهب الى استوديو فينوس لصاحبه الأرمني ارتنيان وتعلم هناك بدون مقابل ثم أسس استوديو خاصاً به في وسط القاهرة بعد سبع سنوات وحمل اسماً
فنياً: فان ليو.
يقول فان ليو في الفيلم التسجيلي «هي وهو» عن قصته للمخرج أكرم زعتري: أحببت التصوير منذ كنت طفلا صغيرا وكنت أجمع المجلات التي تحتوي على صور نجوم هوليوود وأدرس تلك الصور، وأفكر في الإضاءة والأزياء، وأماكن التصوير. وحين حضرت إلى القاهرة في البداية عملت مساعدًا لدى (أرتنيان)، صاحب ستوديو (فينوس) في شارع قصر النيل. عملت معه بدون أجر لكني تعلمت كثير من المهارات
وذكر ليو فى حواره عن كم اللغات التى كان يسمعها من حوله فى طفولته فى مصر : الارمنية في البيت، التركية للغناء وتبادل الاحاديث خلال زيارات الأقارب، اليونانية مع محلات البقالة، والانجليزبة مع زملاء والده في شركة الترام
شخصية الفنان
سجل ليو تفاصيل الحياة فى مصر بشخصية متفردة وخاصة به، كان يتقن لعبة الظل والضوء، يبدو بارعاً في صناعة مشهد مؤثر. فالبورتريه عنده حسبما ذكر الكاتب احمد وائل ليس لحظة مسجلة، إنما يكشف حكاية. كما لو أننا أمام شريط سينمائي لم ينل مشاهدوه إلا مشهداً وحيداً. لم تجذبه الألوان، بل كان حريصاً على التقاط الصور بالشكل الذي يُفضله، حسب درجات الأبيض والأسود. وإن كان قد عالج بعض اللقطات لتحمل أطيافاً لونية.
ومن صوره المميزة صورة تجمع بين اثنين من راقصي أحد الملاهي الليلية. تظهر السيدة في زي راقص يكشف ساقها، بينما تغطي رأسها بتاج صغير، والرجل يحمل طبلة يدق عليها بأنامله السوداء. تسمع أصوات الدق وتتخيل حركة السيدة. يسجل ليو في هذه الصورة حياة الترفيه الليلي، حين كانت مصر ملتقى لنجوم الترفيه في العالم، لإسعاد جنود الحرب العالمية الثانية. كما صور ليو نفسه من خلال مجموعة متميزة من البورتريهات خلال مراحل عمرية مختلفة، تبدأ بالعشرين إلى ما بعد الأربعين.
كما صوّر جنود الحرب العالمية الثانية، وكبار موظفي الحلفاء، وعدداً من نجوم هوليوود، الذين كانوا يحضرون إلى مصر للترفيه. ومن نجوم مصر صور رشدي أباظة وعمر الشريف وسامية جمال وداليدا ومحمد عبد الوهاب، إلى اللواء محمد نجيب والأديب طه حسين والناشطة النسائية درية شفيق وغيرهم.
كان ستوديو فان ليو أشبه بالمسرح والعالم الافتراضي البعض يأتي إليه ليلعب وينسى شخصيته الحقيقية، ويعيش لحظات من المرح، ويتفاجأ فى النهاية بصورته محتفظا بها كقطعة ثمينة نادرة.
كان المعتاد أن يروج المصوّر للاستوديو الخاص به وكان يملك فان استوديوهين فى ارقي شوارع وسط البلد وفى عز مجده لم يكن يسعي للحصول على لقب مثل المصور الخاص للملك فاروق، لكن ليو لم يفعل ذلك كان يصور الجميع ، كل من يأتى اليه، بل واحيانا كان يصور مجانا من تشده تعبيراته ووجه ويجد فى تصويره متعة بدون مقابل، كان يقوم بجميع المهمات، يطبع الصور ويعالجها. كان يتصرف كفنان، وليس كصاحب مشروع تجاري. لم يتخل عن أسلوبه القديم، ظل وفياً للأبيض والأسود، مع رتوش لونية يضيفها عبر المعالجة.
بعد ١٩٥٢
تم الحجز على أسهم السكك الحديد البلجيكية التي ورثها عن والده،. فسعى لدى معارفه إلى أن نجح في استرجاع جزء من ثمنها. وساء الامر بعد مغادرة الجاليات اليونانية، الإيطالية، واليهودية، ومعها خسر فان ليو عدداً كبيراً من زبائنه، ومع قيام النزعة الأصولية بدأ بحرق بعض الصور التي صورها في الماضي. وقال فى حوار خاص قبل رحيله بسنوات : غزو الصور الملونة اثر فى مهنتى كثيرا كما ان تدنى مستوى المعيشة الغي ( الصور العائلية) التى كانت كل اسرة تحرص على التقاطها قبل سنوات كثيرة)
كان حزينا فى اواخر عمره ظنا منه انه افنى حياته دون اى مكسب ولكنه لم يعرف انه قدَّم لمصر وثيقة عن أكثر من نصف قرن من حياتها. وله علامة مميزة يعرفها كل باحثى التاريخ ومحبي التصوير وهواة التجميع، وهو اثبت للاجيال المستقبلة ان المصور الفوتوغرافي يمكن ان يكون كاتبا ومفكرا وأن تكون له شخصية ولغة فوتوغرافية خاصة به وحده.
رحيله
تنازل فان ليو فى أواخر حياته عن مجمل أعماله لمكتبة الكتب النادرة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ليضمن حفظها وإعادة ترميمها بعد وفاته، وذلك بعد حصوله على جائزة الأمير كلاوس من هولندا عام 2000، ليرحل عن عالمنا فى 18 مارس 2002.