الأزهر الشريف صرح تعليمي ديني وعلمي وفلسفي عظيم, حمل لواء الدعوة الإسلامية في كل ربوع العالم أكثر من ألف عام, ومازال يعمل بجد ونشاط لنشر الإسلام الوسطي المستنير, قام بهذه الرسالة الجليلة شيوخ أساتذة وعلماء وأدباء وفلاسفة مشهود لهم, ونحن نذكر دائما بعضهم مثل: الشيح حسن العطار, والشيخ رفاعة رافع الطهطاوي, والشيح الإمام محمد عبده, والشقيقان الشيخان علي ومصطفي عبدالرازق, والشيخ أحمد حسن الباقوري, والشيخ شلتوت وغيرهم, ومع ذلك فتاريخ الأزهر حافل بأسماء أخري من الشيوخ العباقرة الذين قدموا الكثير لكنهم غير معروفين أهملهم ـ للأسف ـ التاريخ من شيوخ الأزهر الموهوبين الأساتذة الشيخ الجليل: طنطاوي جوهري الذي عاش بين السنوات 1870 ـ 1940 وكان علما من أعلام الأزهر خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين بفضل أدائه وكتبه وأعماله التي اتسمت بعمل العقل ودراسة الكون والطبيعة والفلسفة واتجاهه الإنساني الواضح, الغريب أن هذا الشيخ العلامة معروف في الدول الإسلامية غيرالعربية مثل أندونيسيا, والهند وباكستان حتي الآن في الوقت الذي لا يعرف شباب مصر, بل وبعض شيوخها عنه شيئا!.
لعل أهم أعمال الشيخ طنطاوي جوهري الفكرية هي تفسيره للقرآن الكريم في ست وعشرين جزءا ووضع له عنوانا: [الجواهر] وانتهي من تأليفه حوالي عام .1932
وله عدة مؤلفات أخري منها: أين الإنسان؟ وفيه يعالج مشاكل العقل الإنساني الفلسفية ويتعرض للفكر الفلسفي العالمي, وهو ما لم يتعرض له معظم شيوخ الأزهر, وكذلك أصدر: [نظام العالم والأمم أو الحكمة الإسلامية العليا], [ميزان الجواهر في عجائب الكون الباهر], [النظام والإسلام], [نهضة الأمم وحياتها], [جمال العالم], [جواهر العلوم].
يقول الأستاذ رجاء النقاش في كتابه: عباقرة ومجانين:
كان الشيخ طنطاوي صاحب دعوة إنسانية واسعة, فكان يدعو من خلال كتبه إلي السلام والتضامن الإنساني الذي يؤدي إلي انتشار العدل وارتقاء البشر جميعا, كما كان يهاجم الدول الكبري التي تعمل علي أن تفرض سياستها بالقوة, وتحاول أن تحقق مصالحها علي حساب الآخرين من أبناء المجتمعات الإنسانية الضعيفة, وكان يري أن الإخاء الحقيقي بين البشر هو الحل المثالي الصحيح لأزمات الإنسان المختلفة, وتمتع بأسلوب جميل واضح مؤثر في دعوته, وكانت كتبه مليئة بالحقائق والمعلومات الواسعة في سائر مجالات المعرفة الإنسانية.
أعتقد عزيزي القارئ أنك تحتاج لمزيد من المعلومات عن الشيخ طنطاوي جوهري.
ولد مولانا الشيخ طنطاوي عام 1870 في قرية عوض الله حجازي في محافظة الشرقية وتعلم في كتاب القرية ككل أبنائها, كما كان يساعد والده في الزراعة بجانب دراسته, انتقل إلي القاهرة بعد ذلك ليدرس في الأزهر, والتحق بمدرسة دار العلوم العليا, وتخرج منها عام 1893 ليعمل مدرسا ثانويا في دمنهور, ثم المدرسة الخديوية بالقاهرة, ولتفوقه أصبح مدرسا في كلية دار العلوم التي تخرج فيها, ثم انتدب لتدريس مادة الفلسفة بالجامعة المصرية سنة 1912, أخذ يقضي وقته بالعمل بالتدريس وتأليف الكتب أيضا, وكان الشيخ طنطاوي طموحا جدا شغوفا بالعلم والمعرفة ومعرفة أسرار الكون ومن هنا وجد أنه من المهم أن يتقن لغة أجنبية حتي يستطيع أن يشبع نهمه للمعرفة, وبالفعل اعتمد علي نفسه مع بعض المدرسين في تعلم اللغة الإنجليزية.
يلقي الأستاذ أحمد عطية الله, أحد تلاميذ وأصدقاء الشيخ طنطاوي الضوء علي جانب مهم من اهتماماته ودراسته, من خلال دراسة مصغرة عنه فيقول: كان للرياضيات والطبيعيات جاذبية غريبة عند الشيخ طنطاوي جوهري, وقد وضح ذلك في تفسيره للقرآن والذي يقرر في ثناياه مثلا أن تعليم الكيمياء من الواجبات والفروض, بل امتد شغفه بالدراسات الطبيعية إلي العلم التطبيقي, فنراه مثلا في عام 1930 يرفع مذكرة إلي الحكومة المصرية أثناء غارات الجراد التي اجتاحت البلاد يقترح فيها جمع الجراد وبيضه لاستخراج زيت يقول إنه أجود زيت يصلح للطائرات. كذلك امتد شغفه من الرياضيات والطبيعيات إلي الموسيقي, باعتبار أنها فرع من فروع الرياضيات, وكان يقول إن الموسيقي المسموعة باب من أبواب الموسيقي المعقولة, أي التي توجد في العقل عن طريق المعادلات الرياضية, وأورد في تفسيره للقرآن كثيرا من النوادر والحوادث الشخصية التي كانت الموسيقي فيها حافزا له علي ارتياد مواطن جديدة من النشاط الفكري.
ويضيف تلميذ الشيخ في دراسته عنه:
قاد الشيخ دعوة إلي الإصلاح الاجتماعي قوامها نشر هذه العلوم, مؤكدا أنه لا جفوة بين القرآن وهو مصدر العقيدة الأول وبين العلوم, بل إنه أكد القول بأن القرآن يحث المسلم علي طلب العلم بمعناه الشامل, وطريق ذلك في نظره هو نشر المدارس وإنشاء الجامعات الحديثة.
يشرح الشيخ طنطاوي سبب اهتمامه بالعلوم في دراسته وكتبه فيقول:
لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية, ألغيت أكثر العقلاء, وبعض أجلة العلماء, عن تلك المعاني معرضين وعن التفرج عليها ساهين لاهين, فقليل منهم من فكر في خلق العوالم, وما أودع فيها من الغرائب.
ويضيف الشيخ عن نفسه:
خلقت مغرما بالعجائب الكونية, معجبا بالبدائع الطبيعية, مشوقا إلي ما في السماء والأرض من بهاء وكمال, وآيات بينات وغرائب باهرات]. ثم يدعو علماء المسلمين إلي أن يقفوا بين الناس شارحين لهم: جمال الزهرة, وبهجة القمر, وبدائع النبات, وغرائب الطب والمعادن, وليكثروا من هذا.. أو لا يري علماء المسلمين من سنيين وشيعيين وزيديين وغيرهم أن هذه العلوم التي تتصل بالكون والحياة غذاء, وأن علوم الشريعة وهي الأحكام الفقهية التي صرفوا فيها أعمارهم دواء وكيف يعيش الإنسان إلا بالغذاء؟ وهو إذا تناول الدواء وحده هلك, بل الغذاء هو الدائم الطلب, أما الدواء فإنما يكون عند انصراف الصحة.
لعل أهم كتب الشيخ طنطاوي جوهري, أو كتابه العمدة هو كتاب [الجواهر] وهو تفسير للقرآن الكريم ويقع في ستة وعشرين جزءا, صدرت الطبعة الأولي منه في 6500 صفحة سنة 1932 تقريبا, الغريب أن هذا العمل الكبير لا يعرفه معظم الشباب والأزهريين, ولا يعاد طبعه الآن إلا عند بعض الناشرين اللبنانيين الذين يقومون بطبعه وتوزيعه في شتي أنحاء العالم الإسلامي.
يحدثنا الشيخ العالم طنطاوي جوهري عن عمله الضخم هذا فيقول:
بعد أن قطعت زمان الشباب وحل بساحتي المشيب وأنا أزاول مهنة التعليم وتأليف الكتب, وجاوزت الستين, أخذت أكتب هذا التفسير وأكببت علي العمل سنتين كاملتين أو يزيد, كنت أكتب في اليوم نحو أربعين أو خمسين صفحة, ومتي أنتهيت من ذلك أقوم للرياضة في الحقول حول القاهرة فأمشي حوالي ستة كيلو مترات كل يوم.
يقوم تفسير القرآن الكريم عند الشيخ علي استخدام الدراسات العلمية الواسعة والتفصيلية في الكيمياء والطبيعة والرياضيات, وذلك للكشف عن عظمة الكون الذي خلقه الله وأبدعه, وهو يشرح كل هذا من آيات القرآن, ولا يكتفي بالشرح العلمي النظري بل يستخدم الصور والخرائط التي تشرح الآراء الواردة في التفسير وتقدم الدليل الثابت علي صحتها. يقول شيخنا الجليل في تفسيره هذا:
إذا أراد المسلمون أن يحمدوا الله حق حمده فليقرأ عقلاؤهم نظام الطبيعة وليعلقوا وليفهموا دقائق الكون, فلا يتركون علما إلا درسوه, ولا فنا إلا عرفوه, وحينئذ يحمدون الله حق حمده.
هذا هو الشيخ طنطاوي جوهري رجل الدين المتفتح الذي يعرف حقائق وروح الإسلام بعيدا عن الظواهر الدخيلة عليه من تعصب وإرهاب وفتن طائفية, أنه يؤمن بأن الإسلام دين العلم والرحمة والحب وتحقيق سعادة الإنسان والمجتمع, ونشر السلام والجمال علي الأرض.
وكم نحن الآن في حاجة إلي فكر هذا الشيخ الجليل, والسؤال الذي يفرض نفسه علينا هو أين كتب هذا الرجل ولماذا لا نعيد طبعاتها ونطبعها طبعات شعبية حتي تعم الفائدة؟.
الطريف أن الشيخ طنطاوي جوهري تقدم عام 1938م للجنة جائزة نوبل بطلب الحصول علي جائزة نوبل للسلام, فقد رأي في فكره ومؤلفاته وشخصه داعية لنشر السلام العالمي, والتعاون بين الدول, ورفض الاستعمار والاستعباد والحروب.
رحم الله الشيخ الأزهري المستنير طنطاوي جوهري.