التفتت بجسدها الجميل وأرسلت نور عيونها الكسيرة صوب عيوني وقالت وهي تبتسم ابتسامة! تحول الجزر إلي مد… أتذكرين يا نفسي ماضينا…؟!
أتذكرين الجنة….؟
أجل… كنا في جنة… وكنا ملائكتها… وكانت هي رئيس الملائكة… كنا سويا بتلك المدرسة البريطانية العريقة منذ نعومة أظافرنا وحتي أتممنا السابع عشر من عمرينا… لا لم نكن في مدرسة وإنما كنا نزلاء في قصر من قصور الجنة ليس في الجمال وروعة المعمار والفخامة فحسب بل في كل من كان يقطنها… كانوا أشبه بالملائكة قلبا وقالبا…. لم يكن في قاموس معرفتنا دراية بوجود كلمات كالغيرة والحسد والنميمة والحقد وسوء الظن والانتقام….. لا بالعربية ولا الإنجليزية والا الفرنسية….. ولا أي لغة أخري علي وجه الأرض… لم نكن ندري أصلا ملامح تلك الكلمات ولا القبح الذي ترسمه علي وجوه أصحابها ومن قبلها قلوبهم حين تتحول من كلمات إلي صفات فتحول القلوب من نور إلي قبور…. لم يكن هناك غير وجوه وقلوب بارعة الجمال مضيئة مبتسمة بسيطة…. لم يكن هناك سوي الحب.. كانت توأم روحي ونفسي من أعرق عائلات مدينتي الساحرة الإسكندرية…. والعراقة في مفهومنا هي عراقة الأصل والخلق… والجذور القوية المضروبة في تربة صالحة خصبة تطرح أشجار مثمرة تشبع كل من يأكل منها شبعا حقيقيا… كانت ملكة.
تذكرت حين فتحت عيوني علي الدنيا فوجدتها بحضني وكأننا توأم متلاصق رفض أن ينفصل بيد مشرط جراح ليضمن بقاء التصاقه للأبد فجاءت الأيام بقسوتها الحادة لتفصلنا جسديا لا… نفسيا ولا روحيا.. فكانت القاسية أحد من حد مشرط الجراح.
تذكرت ليالينا التي أمضيناها ضحكا ولعبا عبر سنوات طوال كدنا لا نفترق لحظة فيها حتي أسمونا التوأمين.
مرت ذكرياتنا سويا أمام عيني كشريط سريع يغلب عليه طابع البهجة والسرور ويغلفه نور متلألئ يبهر الناظرين وما هي إلا ثوان حتي انحسر المد وجاء الجزر وتوارت البسمة الفاتنة خلف ضباب كثيف غطي تلك العيون البارعة بنظرة أشبه بنظرة طفل صغير أفاق من نومه فوجد نفسه وسط بيداء قاحلة بلا مأوي ولا أهل.
وقالت: لقد زرت الجحيم يا نفسي…. بل سكنته… وها أنا الآن أحاول أن أستشفي.. التفت إلي توأمي وخليلة صباي واختلست نظرة حذرة عن استحياء داخل عيونها الشاردة فإذ بي أغرق داخلهما بلا أدني مقاومة مني ولا أدني رحمة منها… شعرت وكأنني بحار, غر, مقدام متفائل ساقته الرياح الناعمة في غفلة وغفوة وألقته بين أضلع مثلث برمودا فابتلعه في…. لحظات توقف بعدها الزمن.. وبين طرفة عين وانتباهتها وجدت نفسي أغوص داخل ذلك المحيط الأزرق الهادئ سطحا الهائج جوفا… دموع تحجرت بإباء وكبرياء كادت ترتسم بمقلتيها كحبات لؤلؤ يضوي بعزة نفس وكبرياء داخل محاره ويأبي أن ينفصل عنها حتي التصق بها التصاقا.
لم أرد أن أطفئ وهج ذلك النور الآتي من اللازمان واللا مكان المنعكس علي تلك العيون الأسرة.. فهممت أحدثها بعيوني التي طالما أبدعت هي في قراءة لغتها وقلما احتجت للكلام كلما كنت بحضرتها فقد عودتني أن ترمقني بطرفها لحيظة فتفهم غايتي وتلبيها فهمتني حبيبتي ـ كعادتها ـ وعرفت رغبتي الملحة في معرفة ماذا حدث بل متي حدث وكيف حدث.. قالت لي بعنفوان ضعف الأنثي: تزوجت من هام بي عشقا… تزوجته لأنني أدرك جيدا معايير الرجولة لا الذكورة… فالحياة مليئة بالذكور عقيمة الرجولة عديمة النخوة.. تزوجت رجلا بمعني الكلمة… ربما كنت طفلة… طفلة في الفكر والمفاهيم العلمانية القبيحة الفاشلة… طفلة في الشر والخبث والدهاء.. لكني كنت حكيمة في الاختيار…. فعندما تضع معايير الله في أي أمر لابد وأن تفوز الفوز العظيم… شريطة أن تكون تلك المعايير معايير صادقة خالصة لا ترتدي أقنعة هوي النفس الأمارة بالسوء فتخفي خلفها أمورا دنيوية وأهدافا شخصية.. تزوجت من كان في حنان وأمان أبي وأمي وربما أكثر… لأنه قد أسكن الله قلبه قبل أن يسكني فيه فكان الأمان… كل الأمان.. أتدرين شيئا… ربما زواجي منه كان هو مكافأتي المقدمة عن رحلة اختباراتي وتجاربي ربما أراد الله منحي ذلك الذراع القوي قبل أن يشكلني ويعيد بلورة إيماني به من جديد وبيقين لا يتزعزع ليس ربما… لكن…. بالتأكيد أنتقلت معه إلي ذلك البلد البعيد التعيس حيث كان ماله وحاله ولم يكن هناك بديلا سوي الانتقال هناك يا نفسي قابلت الشيطان وجها لوجه قابلته شخصيا في وجوه وشخوص لا يمكن تخيل سكناه بداخلهم قابلته وعرفته وجزت جحيمه وانتصرت عليه بقوة الله الذي ما برح قلبي لحظة حتي وأنا في داخل الآتون المشتعل.