كان ومازال صوت الفنانة أسمهان الدافئ مع فنجان القهوة الساخن يمثل سعادة وانتعاشا لي.. وهي تغرد: يا مين يقول لي أهوي.. أسقيه بإيدي قهوة.. ياللي تبات الليل سهران من إيدي لو تشرب فنجان.. راح تلقي فيه السلوي والدنيا تصبح حلوة..
فهل صحيح أن القهوة تفيد الإنسان وتسعده وتدفع فيه حب الحياة والناس؟
الواقع أن العلماء والأطباء يقولون ذلك, وقد أثبتت أبحاثهم ذلك فعلا. تقول الدكتورة نشوي علي الجعيدي ـ أخصائي التغذية الإكلينيكية بالمعهد القومي للتغذية ـ إن القهوة لها فوائد عديدة أثبتتها الدراسات الحديثة, فالقهوة تقلل من خطر الإصابة بالصدمة الدماغية حيث أثارت الدراسات إلي أن الأشخاص الذين يشربون القهوة باعتدال لديهم معدلات أقل من السكتة الدماغية مقارنة بالذين لا يشربون القهوة, والقهوة تساعد علي منع الإصابة بمرض الزهايمر, فالأشخاص الذين يتناولونها يوميا أقل عرضة للإصابة بالزهايمر والخرف لأن مضادات الأكسدة تزيد من آثار العصبية المعينة في وظيفة الإدراك وتمنع تلف خلايا الدماغ, والذين يشربون القهوة يوميا بانتظام بأكثر من فنجانين أقل عرضة لتطور مرض السكر, فالمواد الكيميائية النباتية المضادة للأكسدة الموجودة في القهوة مثل حمض الكلودوجينيك قد تزيد من حساسية الخلايا للأنسولين, وبالتالي فهي تنظم مستويات السكر في الدم. وتناول جرعة يومية من القهوة يقلل من خطر الإصابة من مرض السرطان, وبخاصة سرطان الثدي والبروستاتا.
ومن الناحية النفسية فالقهوة تبعد عنك شبح الاكتئاب وتجعلك أكثر تفاؤلا وسعادة وحبا للناس والحياة. وأذكر في طفولتي قعدات الحب والصداقة بين الأقارب والأصدقاء حول فنجان القهوة, وكانت المضيفة تدعو الجميع لبيتها, ثم تصنع القهوة أمامهم علي (السبرتاية) بل كانت أحيانا تأتي بحبوب البن وتطحنه في ماكينة صغيرة أمام الضيوف ثم تصنع القهوة الطازجة ذات الرائحة النفاذة الجذابة وتقدمها لضيوفها.
كانت هذه جلسات الحب مع القهوة, مشروب الحب والصداقة في الزمن الجميل, أذكر أيضا عندما التحقت بالعمل في هيئة الإذاعة وفي مكتب رئيسها الإذاعي الكبير عبدالحميد الحديدي رحمه الله, رحب بي وقدم لي فنجانا من القهوة صنعه بنفسه علي (السبرتاية)! هذا زمن مضي, كانت فيه الحياة هادئة والحب يجمع بين الجميع الكبير والصغير, والاحترام المصاحب للحب يتمتع به كل إنسان.
القهوة كمشروب صحي مفيد جذاب مشوق مرت بمراحل كثيرة, يقول المهندس الزراعي الدكتور تادرس ميكائيل الذي حصل علي درجة الماجستير في البن من جامعة القاهرة, ويعيش في كندا الآن إن القهوة اكتشفت في إثيوبيا, واكتشفها بالمصادفة أمير حبشي يدعي (راس تاتلابونا) عاش في القرن الثالث عشر الميلادي, كان يملك مجموعة من الجمال, وقد لاحظ أن بعض هذه الجمال يتمتع بنشاط موفور بعد رعيها, فأخذ يلاحظها حتي عرف سبب هذا النشاط وهو تناول الجمال نوعا من أنواع الحبوب الموجودة في الحقل, ودفعه حب الاستطلاع إلي تناول بعض هذه الحبوب ليتذقها ويعرف نتيجتها لكنه سرعان ما أخرجها من فمه لطعمها المر وقذف بها في النار القريبة منه, ومن عجب تصاعدت من النار رائحة زكية جذابة نتيجة حرق الحبوب أعجبته. وكان هذا الأمير أول من يكتشف البن المحمص.
وهناك حكاية أخري تقول إن البن اكتشف في الجزيرة العربية علي يد الراعي العربي.. خالدي.. الذي وجد مجموعة من الماعز التي يرعاها أكثر نشاطا وحركة في آخر النهار فتأملها وراقبها في اليوم التالي حتي عرف أنها تأكل بعض الحبوب الموجودة في الحقل من شجرة خضراء وهي شجرة البن, من إثيوبيا انتقل البن إلي اليمن عام 1575 واشتهر هناك لدرجة أن سمي البن (موكا) في أوروبا نسبة إلي الشاطئ الذي كان يصدر منه من اليمن, وهو شاطئ مردخاي.
الغريب أن الاسم العلمي للبن هو Coffea Arabica وقد أطلق هذا الاسم العالم لينابوس عام 1753اعتقادا منه بأن العرب عرفوا البن قبل غيرهم.
يعود اسم القهوة أو الكافيه المعروف في كل العالم اليوم إلي اسم الإقليم الذي ينتج البن بكثرة في إثيوبيا وهو إقليم.. كافا.. kaffa.. حيث توجد الغابات الخضراء التي تكثر بها أشجار البن البرية, ويقع هذا الإقليم في جنوب غرب العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا).
كان الإثيوبيون في بداية اكتشافهم للبن يصنعون منه كورا صغيرة مثل حبات المشمش أو الخوخ ويضيفون إليه الزيوت والملح والزبد لكي ترتفع قيمته الغذائية ثم يمضغون هذه الكرات أثناء عملهم أو سفرهم فتمدهم بالغذاء والنشاط والحيوية, ويعتبر البن العمود الفقري للاقتصاد الإثيوبي وبعض الدول الأخري. شجرة البن صغيرة دائمة الاخضرار, أزهارها عطرة, تنمو في إثيوبيا علي ارتفاع ألفي متر من سطح الأرض وتحتاج لطقس حاد رطب ومطر غزير, تنتج ثمارا حمراء داكنة.
تقول الموسوعة الثقافية إن شجرة البن تنتج محصولا بين السنة الخامسة والعاشرة وتستمر حتي الثلاثين سنة التالية, ويصنع من مشتقاته علف الماشية, الكحول, وزيت الوقود والجلسرين وغير ذلك.
كأي مشروب جديد تردد الناس في البداية في تناوله واحتسائه, بل وصدرت أوامر بمنعه, يذكر سلامة موسي في كتابه: حرية الفكر وأبطالها في التاريخ, قصة القهوة معتمدا في روايته علي كتاب عبدالقادر محمد الأنصاري من أهل القرن العاشر الهجري.. يقول المؤلف: أعلم أن القهوة هي الشراب المتخذ من قشر البن, فمن قائل بحلها يري أنها الشراب الطهور المبارك علي أربابها الموجبة للنشاط والإعانة علي ذكر الله تعالي وفعل العبادة لطلابها, ومن قائل بحرمتها مفرط في ذمها والتشنج علي شرابها, وكثر فيها من الجانبين التصانيف والفتاوي, وبعضهم نسب إليها الإضرار بالعقل والبدن إلي غير ذلك من الدعاوي والتعصبات المؤدية إلي الجدال والفتن وحصول ما أدي إلي منازعات ومحن بمكة والقاهرة والمنع من بيعها, وكسر أوانيها الطاهرة, بل وتعذيب باعتها بالضرب وغيره من غير حجة ظاهرة, وإلي تأديبهم بضياع مالهم وإحراق القشرة المتخذة منه في كرات متواترة, وبالغ الذم لها أن شاربها يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من قعور أوانيها, وكثر التقاطع والتدابير بين الفريقين والذم لمن يعاينها, كان أول ظهور للقهوة في مصر -كما يقول ابن عبدالغفار- في العشر الأول من القرن العاشر الهجري في حارة الجامع الأزهر, وكان اليمنيون يشربونها في رواق اليمن بالجامع ومن يسكن في رواقهم من أهل الحرمين.
ظل الإباحة والتحريم يواجه مشروب القهوة, فقد حاول معظم الفقهاء والحكام إلي منتصف القرن العاشر الهجري تحريمها في مصر والحجاز مستندين في ذلك إلي الدين, ولكن بيوت القهوة تعددت علي غير مبالاة من الولاة. وأبي الجمهور أن يتقيد بفتاوي الفقهاء, أو تنطع الحكام, واحتفظ بحريته في تناول الطعام والشراب.
بعد أن تخلص الناس من حكاية الإباحة والتحريم وأصبح مشروب القهوة شائعا ومحببا إلي الناس وعرفوا فوائدها المختلفة, انتشر المشروب في مصر ومكة والقسطنطينية والبندقية ولندن وباريس وفينا وألمانيا, ونافست القهوة الجعة (البيرة) وتفوقت عليها في ألمانيا حتي أصبحت مائدة الإفطار هناك لا تخلو من القهوة المصنوعة من الماء المغلي, توجد أكثر من طريقة لإعداد القهوة وأكثر من اسم لها, فالقهوة التركي أشهرها وهي تصنع سادة دون سكر, أو مضبوطة سكر متوسط, أو مانو سكر فوق المتوسط, أو زيادة أي سكر زيادة, هناك أيضا النيس كافيه, والكابتشينو باللبن, وفي أوروبا يصنعون القهوة بالكونياك, حتي بعض الأطعمة تصنع بإضافة القهوة إليها مثل بعض البسكويت والشيكولاتة وغيرها, وخصصت كل الدول أماكن خاصة لتناول القهوة واحتسائها أطلقت عليها القهاوي أو المقاهي, وقد جاء اسم المقهي من القهوة, وقد افتتح أول مقهي في مصر عام 1500م وفي إسطنبول عام 1554م, وفي أوروبا عام 1721م.
هذا هو مشروب الحب الذي يجتمع حوله المحبون والأصدقاء والأقارب والمعارف.. فنجان القهوة وقصته منذ اكتشافه. ومع أن القهوة مفيدة ولذيذة إلا أن الأطباء يحذروننا من تناول أكثر من ثلاثة أو أربعة فنجانين في اليوم, أما مرضي القلب فممنوع عليهم شربها, كاتبنا الكبير نجيب محفوظ كان يشرب يوميا خمسة فناجين من القهوة.