لي أم.. لن يجود الزمان بمثلها, فهي ليست جميلة الشكل فحسب, بل هي بارعة في جمال العقل والخلق.. فبرغم كونها حفيدة مدللة لأحد باشوات الزمن الجميل, إلا أنها استطاعت -وبجدارة- أن تحقق لي ولغيري المعادلة الصعبة.. وهي إمكانية اجتماع ثراء الحكمة والرقي والأخلاق والعلم جنبا إلي جنب مع ثراء المال والحسب والنسب.. في زمن صارت فيه القاعدة الأساسية هي التناسب العكسي الرهيب بينهما.
كثيرا ما كنت أهرع إليها متهللة وسعيدة بالتعرف علي شخص ما.. منبهرة بمقدار أدبه ولطفه ومثاليته وتدينه (مسلما كان أو مسيحيا).. فكانت تحتضني في حنان وترد ردا واحدا افرحي يا حبيبتي واسعدي بهذا الخير.. أحبي الجميع واحترمي الجميع وساعدي الجميع.. لكن وأنت علي مسافة آمنة منهم حتي يأتي عليكم اختبار النار.
وتعجبت في نفسي.. غير مدركة معني كلماتها القاسية.. وكيف لأم كهذه -أري فيها تجسد المثالية- أن تطالبني بمقابلة الحب والخيروالكرم والتدين والمثالية.. بالنار؟!
لم تتركني أشرد طويلا.. وكأنها تقرأني في براعة بادرتني بقولها: اختبار النار.. هو اختبار الحياة.. تبسمت بمسكنة وكأني استثير عطفها كي أحظي بالمزيد من التفسير.. وكأني أسابق الأيام وأسبق دروسها القاسية.
فبادرتني ملكتي الجميلة وقالت: يا ابنتي لا تتعجلي حكمك علي الناس مهما طال زمن معرفتك بهم.. وكما نصحتك سابقا.. أحبي أخلصي اصدقي اخدمي ضحي أعطي أحسني الظن.. لكن كوني علي هذا البعد الآمن ليس بجسدك بل بقلبك حتي وإن جاء يوم الاختبار -وحتما سيأتي.. عاجلا أم آجلا- لا ينكسر قلبك.. ولا تحزن روحك.. فتكوني قوية وتحتسبي ما قدمتيه من عملات نادرة كالحب والطيبة -لبعض الأغبياء- تحتسبيه عند الله.. ولك عليه أجر وجزاء مضاعف.
فكل الناس -ونحن منهم- نجتهد أن نظهر أجمل ما فينا وربما يذهب البعض لأبعد من ذلك فيدعي ويتبني ما ليس فيه ليلتحف بالمثالية أو الخلق أو التدين.. إنها غريزة بشرية.. تتفاوت درجاتها من إنسان لآخر.. بقدر صدقه ومصداقيته وثقته بنفسه وقناعته ورضاه بحقيقته.. فالكل يريد أن يكون محبوبا.. جميلا.. مقبولا ممن حوله.
نعم.. كلنا ذلك الشخص الجميل الرائع.. لكن متي تعرفين أن ما يظهره الشخص من روائع وقت الرخاء والاتفاق والانسجام وعدم تضارب المصالح.. هو ما يبطنه في جوهره وحقيقته؟ تعرفين.. وفقط تتأكدين حين تختبر الحياة جوهركما.. حقيقتكما فسرعان ما سيأتي ذلك الاختبار الفاضح الكاشف.. سؤال تفرضه الحياة.. تختلفان في إجابته..
فطالما كان الاثنان يسيران علي خطين متوازيين لا يتقاطعان فكل منهما منطلق بشوش لطيف رائع لا مجال لخلاف أو اختلاف.. أما حين تتضارب المصالح أو تختلف وجهات النظر أو القرارات ويبدأ الخطان المتوازيان في الاقتراب أو الالتحام وربما التقاطع.. فتلك هي أروع لحظات الحياة.. لحظة اكتشاف الذهب من الصفيح حين يلقي في النار.. الذهب سيتوهج بقوة.. سيزيد لمعانا وبريقا.. أما الصفيح سينكمش ويحترق ويتلاشي..
أيا كانت النتيجة يا ابنتي.. اسعدي وكوني قوية كالصخرة.. فإنك ستخرجين من ذلك الامتحان إما بشخص تهبين له ما تبقي من عمرك.. أو شخص تهربين منه بما تبقي من عمرك.. في الحالتين أنت الفائزة.. حتي ولو تألمتي قليلا.. فأنت أقوي مما تعتقدين.. ستقومين من كبوتك وتقفين علي أقدامك.. لكنها ستكون أقوي وأصلب.. كأقدام فرس قوي لا يستسلم للصيد والقتل.. شريطة أن تكوني أنت -وقت هذا الاختبار.. وبعده- ملكة.. في تصرفاتك وإيثارك وحبك ورقيك.. وحتي في مغفرتك حين تصدمي بوجه آخر لم تعهديه ممن أحببتي.. اغفري كملاك.. وارحلي كملكة في هدوء.. وانتظري شخصا آخر في اختبار آخر.. يعيد تشكيل معايير من حولك بعمق ونضوج.. اختبار جبار باختصار.. اختبار النار.