لأول مرة نجد أنفسنا في اختبار عملي إضطراري لحفظ مسافة بيننا وبين الأخرين، وهو أمر غير معتاد، ويبدو أنه مثير للقلق والتوتر ليس فقط لأننا مضطرين للتباعد، ولكن أيضا لأننا نعيش ضمن شروط مادية وثقافية لا تسمح بالتباعد المطلوب في الكثير من الحالات. وبرغم التوتر المصاحب لهذا الظرف الاستثنائي، إلا أن هناك من يرى أن هذا التباعد المفروض، حتى وإن لم يتحقق بالشكل الذي يتطلبه هذا الظرف، قد يكون بداية للتغير في سلوكيات البشر بصورة إيجابية، بمعنى أنه قد يكون محفزا على احترام المسافات الاجتماعية ومن ثم احترام الخصوصيةالشخصية، أي اتاحة المساحة الفردية التي يحتاجها الإنسان ليشعر بالارتياح والطمأنينة. وهو ما يجعلنا نتساءل هل هناك علاقة بين اجراءات التباعد الاجتماعي المفروضة الآن، سواء تم ممارستها من عدمه، واحترام الخصوصية؟ في الحقيقة أن المسألة ليست بالبساطة التي يتصورها البعض فقد تكون هناك تأثيرات محتملة، ولكن في النهاية نحن نتحدث عن أشياء ليس لها علاقة مباشرة ببعضها.
وفق قاموس “ويبستر” فإن التباعد الاجتماعي هو ممارسة تهدف للحفاظ على مسافة جسدية أكبر من المعتاد عن الأشخاص الآخرين، أو تجنب الاتصال المباشر بالأشخاص أو الأشياء في الأماكن العامة أثناء تفشي مرض معد، من أجل تقليل الإصابة به أو انتقال العدوى. ولذا يتم استخدام كلمة “التباعد” للاشارة إلى الطابع الاضطراري لحفظ هذه المسافة المكانية وفق أوامر وتعلميات تحددها السلطات الصحية، وهي الآن في حدود المترين. وقد نضطر لزيادة أو انقاص هذه المسافة حسب تطورات الأوضاع، فمثلا هناك دراسة تشير إلى أن فيروس كورونا يمكن أن ينتقل في الهواء لمسافة ستة أمتار وبالتالي قد يرى البعد أن أن التباعد يجب أن يكون أكثر من المترين. هذا ما يخص المسافة المكانية المفروضة من أجل احترام التباعد لأغراض صحية، ولكن المسافة الاجتماعية مفهوم أوسع من ذلك، لأنه مفهوم اجتماعي وثقافي، ويرتبط بطريقة التفاعل الاجتماعي بين الأشخاص والفئات والأشخاص وحتى العلاقة بين الجنسين. وبهذا المعنى فإن التباعد الاجتماعي المطلوب الآن هو إجراء وقائي وليس موقفا ثقافيا أو قيميا، فهو مسافة يحكمها الخوف وليس الاحترام بالضرورة.
أما الخصوصية وفق التعريف القاموسي فتعني أن الشخص متحرر من مراقبة الآخرين له وإزعاجه، بما في ذلك حماية أسراره. وبالتالي فهى مسألة ثقافية وأخلاقية، ويمكن أن تحميها القوانين والقواعد والأعراف الاجتماعية. وكما نعلم فإن وضع مسافات الاجتماعية ليست أمرا جديدا، بل هو أمر شائع ونسبي حسب طريقة التفاعل الاجتماعي في المجتمعات والثقافات المختلفة وحتى بين الفئات الاجتماعية داخل نفس مجتمع. ولا شك أن مفهوم المسافة الاجتماعية قد بات أكثر وضوحا وتنظيما في المجتمعات الجديثة مع نشأة الوعي بالفردية واستقلالية الفرد عن الجماعة. فالفرد في مراحل ما قبل التحديث كان يعني “اللصيق”، أي ما لا يمكن فصله عن الجماعة، أما في العصر الحديث، فقد أصبح الفرد مستقلا عن الجماعة، وهكذا بدأت منظومة الحقوق الشخصية التي تقر بحق الفرد في الخصوصية. ولذلك نجد أن احترام خصوصية الفرد مسألة مرتبطة بالحداثة والتحديث، ويعتبر الاقتراب الزائد عن الحد، بدون موافقة الشخص، نوعا من اختراق الخصوصية أو التحرش. وفي الثقافات التقليدية، التي مازالت ترى أن الفرد هو كيان خاضع للجماعة، فإن النظرة للمسافات الاجتماعية تكون مختلفة، فالمسافات الاجتماعية قد تكون موجودة ولكنها لا تعني بالضرورة احترام الخصوصية. ومن مفارقات المجتمعات الثقافات المحافظة أن تحرص أحيانا على مسافات تصل إلى حد الفصل أو العزل الاجتماعى، كأن يتم الحرص على الفصل القسرى بين الذكور والإناث. وهذا النمط من العزل يرتبط دائما بعدم احترام الحق في الخصوصية، فلا خصوصية لمعزول. وبالمثل فإن كثير من أنماط التباعد الاجتماعي يتم فرضها من منظور طبقي أو عرقي، وتعد شكلا من أشكال العنصرية، حيث تكون تعبير عن التعالي والتقزز من الطرف الأضعف.
وبهذا المعنى يمكن القول أن حفظ المسافات الاجتماعية الآمنة للوقاية من الأمراض والأوبئة يختلف عن حفظ المسافات الأمنة لاحترام الحق الشخصية. فالحالة الأولى استثنائية وعابرة، ولو استمرت لن تكون سوى ظاهرة مرضية يحركها الخوف والقلق، أما حفظ المسافات الآمنة من أجل احترام الحقوق الشخصية فهي مسألة وعي وقناعات وسلوكيات، وهي أمور ينبغى أن يصونها القانون ويمكن وضع قواعد في المجال العام، لضمان عدم انتهاك الحيز الخاص للشخص والحماية من التحرش. ولكن ينبغى التأكيد على أن الخصوصية هي في الوقت ذاته مسألة تقديرية وتوافقية، فالاقتراب والابتعاد يتم بالتوافق والرضا بين الأشخاص، وبالتالي، فمن الممكن الاستفادة من تجربة التباعد الاجتماعي لإقرار الحق في مسافات تصون الخصوصية في الأماكن العامة، ولكن يجب أن نعي أن مسافات الخصوصية لا يفرضها الخوف وإنما القناعة، وهي حق شخصي بالأساس، كما أنها لا تُقاس بالأمتار وإنما بالإحساس.