أقل ما يقال عن الفيروسات أنها “كائنات” محيرة سواء في اكتشافها أو في التعامل معها والسيطرة عليها، فلا هي كائن حي كالجماد ولاهي جماد بلا حياة، كما أنها تقع في الحدود بين الكيمياء والأحياء. فطبيعتها المبهمة حيرت العلماء منذ بداية اكتشاف إصابة النبات بمسببات غير مرئية. وسارت الجهود العلمية في محاولة لعزل هذا العامل المسبب للمرض والعدوى والذي لم يجدوا له اسما سوى تسميته “بالسائل الحي المعدي”، وهو اصطلاح، كما يقول روبرت ماثيوز، في مقال بعنوان “الفيروسات .. العدو في داخلنا”، تم تحويره لا حقا إلى فيروس (من اللاتينية بمعنى “سم”). وظل الأمر مبهما لأن الفيروسات أصغر من ترى بالمايكروسكوب العادي فهي أصغر من البكتيريا مائة مرة، إلى أن تم رؤيتها عام 1939، ولكن لم يتم التعرف على كيفية عمل الفيروسات إلا فى خمسينيات القرن الماضى مع اكتشاف الشفرات الوراثية د.ن. أ DNA، و ر.ن.أ RNA.
ومع توصل العلم إلى معرفة الشفرة الوراثية، تم التعرف على الفيروسات، الوصول إلى أنها كائنات دقيقة تتكون من غلاف بروتينى يدثر الفيروس ويحميه، وبداخل هذا الغلاف الحامي جزيئات وراثية متحكمة. وهذا التكوين البسيط لا يجعل الفيروسكائنا حيا كالخلايات والميكروبات، فهو لا يقوم بالعمليات الحيوية المميزة للخلايا الحية، فلا هو من الآكلين أو الشاربين ولا يتنفس ولا يتزاوج، حسب تعبير الراحل الدكتور عبد المحسن صالح، أستاذ علم الكائنات الدقيقة، بجامعة الإسكندرية. وهنا السؤال: كيف إذن يمكن للفيروس أن ينشط ويعيش؟ إنها عبقرية وقدرة الفيروسات على البعث، فهى بمفردها خاملة بلا حياة إلى أن تجد الخلية الحيةالمناسبة، فتتخلى عن ردائها البروتينى وتغزو الخلايا المستهدفة بحقن جزيئاتها الوراثية. وهو غزو محكم ومنظم، فالجزيئات الوراثية للفيروس تستهدف مراكز التحكم في نواة الخلية، فتسيطر عليها وتوجهها حسب إرادتها، فتصبح الخلية طيعة ومسلوبة الإرادة وتفى بمتطلبات بعث الفيروس، فتأكل له وتتنفس له وتبنى له ذريته الجزيئية. والكلام للدكتور عبد المحسن صالح فقد وجد العلماء أن الفيروس لا يفضل إلا خلية نشطة، وأنه إذا دخلها أوحى إليها أن تضاعف نشاطها، فتبدأ فى سحب العناصر الغذائية من الوسط الذى تعيش فيه بشراهة، وأن بعض هذه العناصر يظهر فى بناء الذرية الفيروسية والتي تسحب الحياة من الخلايا، إلى أن تموت، فتخرج الذرية لتكون كائنات غير حية إلى أن تستعمر خلايا أخرى تمنحها الحياة. وهنا يظهر الفرق بين الفيروسات والبكتريا، فالخلية البكتيرية خلية حية قادرة على إعادة انتاج ذاتها، أما الفيروس فيلزمه خلايا حية، ومنها البكتريا، ليعيد انتاج ذاته. وحسب وصف لوك مونتانييه، الحائز على جائزة نوبل للكشف عن فيروس نقص المناعة المكتسب، فإن الفيروسات هى “طفيليات الخلايا”.
وثمة سؤال آخر حاول العلماء أن يجدوا له إجابة وهو من أين أتتالفيروسات؟ حسب المقال المنشور فى مجلة الثقافة العالمية، ثمة افتراضات، منها أن تكوين الفيروس من البروتين والشفرات الوراثية، والتى تجعل منه طفيلى بامتياز، توحى بأنها أجزاء هاربة من الخلايا العادية، أى جزيئات وراثية هاربة أخذت معها قطعة من البروتين تغلفها وتحميها. وإذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فإن الفيروسات تكون قد عاثت فى الأرض فسادا منذ أن ظهرت أول الخلايا قبل مليارى سنة. وثمة فرضية أخرى عجيبة تفترض أن الفيروسات تأتى إلى الأرض من الفضاء الخارجى مع المذنبات، وتعتمد هذه الفرضية على طريقة انتشار الفيروسات، وخاصة انتقال فيروس الإنفلونزا “فخلال اجتياح الإنفلونزا فى عام 1918، اكتشف الأطباء أن الفاشيات Outbreaks حدثت فى الوقت نفسه فى أماكن تبعد عن بعضها بآلاف الأميال، بينما استغرق الأمر أسابيع عدة لانتشار الوباء إلى مدينة قريبة منها. وتعزى عملية الانتقال بعيد المدى هذه إلى الرياح الجوية Atmospheric Winds.
إن الحالة التى يعيشها العالم الآن فى مواجهة وباء فيروس كوفيد- 19، لا تبدو مفاجئة فى الأوساط العلمية، فتوقعات هجمات فيروسية ظلت قائمة، فمنذ سنوات معدودة واجه البشر فيروسات أشد فتكا وهى الإيبولا والسارس، وإن لم تكن قدرتها على الإنتشار أكبر مما هو عليه الحال الآن. وعلى الرغم من التقدم الذى أحرزه البشر فى حروبهم مع الفيروسات، إلا أنه، حسب ماورد فى مقال روبرت ماثيوز فإن “الحرب ضد الفيروسات أبعد ما تكون عن نهايتها، ويعنى تركيبها الجينى أنها قادرة على إحداث الطفرات سريعا. وبتغييرها المستمر لغلافها البروتينى، تقوم الفيروسات المسببة لنزلات البرد بإجبار الجهاز المناعى على البداية من نقطة الصفر فى كل مرة، مما يمنحها الوقت الكافى للانتشار. وتمتلك الفيروسات قدرة على التقلب مثل الحرباء، وهو السبب فى احباط محاولات العثور على دواء شاف من نزلات البرد حتى الآن”. وبالمثل يجيب فيليب سانسونيتى أستاذ المايكروبيولوجى، عن سؤال لمذا سيظل هناك دائما أمراض معدية؟ بالقول أن الأحياء المجهرية تفوق البشر بمراحل من ناحية العدد والقدرة على التنوع الجينى، وهناك دائما نوع من الجراثيم يحقق التكيف مع وضع ما. ولذا فإن الصراع متواصل ومستمر.