النبوءة لغويا هي “الإخبار عن الشيء قبل وقته حَزْرًا وتخمينًا”، والنبأ هو الخبر. وترتبط النبوءة بالغيب، ولذلك فهي تحتمل التقديس وتحتمل الدجل، كما تحتمل الحقيقة والوهم، والصدق والكذب. وفي الحقيقة أن المشكلة ليس في كون النبوءة يمكن أن تكون حقيقية وصادقة أو أن تكون وهمية وكاذبة، ولكن المشكلة في أن تكون حقيقية وهي وهمية، وأن تكون محل تصديق وهي كاذبة. وفي الواقع أن هذا الأمر لا يشكل حالة استثنائية بل هو ملازم لحياة البشر بداية من العلاقات الشخصية وحتى الحياة الاجتماعية بشكل عام: فكم من الأوهام نعتقد أنها حقائق؟ وكم من الأكاذيب نتوهم أنها الصدق بعينه؟ وليس هذا وفقط، بل أحيانا ما ندافع باستماتة عن أوهام كأفراد ومجتمعات، وقد تمضي حياة الفرد بكاملها في تقديس الأوهام. والمأساة الحقيقية إذا جاءت اللحظة التي يكتشف فيها الشخص أن ما عاشه بوصفه حقيقة ما هو إلا وهم أو كذبة.
ولكن الفكرة الملفتة أن البشر كثيرا ما يتصورون حدوث شئ ما، ثم يتصرفون وكأنه حادث بالفعل، بمعنى أن التفكير في شئ لم يحدث بعد، يجعله واقع، وهذا ما يفسره مفهوم “نبوءة ذاتية التحقق” Self-Fulfilling Prophecy الذي أدخله روبرت ميرتون إلى ميدان علم الاجتماع، فوفق موسوعة العلوم الاجتماعية، فإن هذا المفهوم يتبع النظرية “القائلة بأن الناس عندما يحددون المواقف على أنها حقيقة واقعة، يترتب على ذلك أن تصبح حقيقة فعلا. ويعتبر ميتون أن “النبوءة ذاتية التحقق” تعد عملية أساسية ومهمة في المجتمع، مشيرا إلى أن البدء بتعريف موقف ما تعريفا زائفا يستدعي سلوكيات جديدة مترتبة على هذا التعريف، تحيل هذا التصور الزائف إلى أن يصبح حقيقة”. ويرى أن هذه السلوكيات تطيل أمد التصور الخاطئ، ولكن هذا التصور الخاطئ لا يظهر على أنه خاطئ مادم محل اعتراف وقناعة. وعلى عكس النبوءة ذاتية توجد “النبوء التي تكذب نفسها بنفسها” Self-Destroying Prophecy “وتعني الموقف الذي لا تتحقق فيه التنبؤات بسبب الانتشار الواسع لهذا التنبوء أو التعميم ذاته. وعلى سبيل المثال فإن التنبوء بحدوث شغب جماهيري أثناء حدث رياضي قد يلغي هذا العنف المتوقع، إذا رأى أولئك الأفراد المحتمل قيامهم بالشغب، حضور عدد ضخم من رجال الشرطة، مما يؤدي بهم إلى الابتعاد عن مسرح هذه الأحداث. ويجب أن نلاحظ – على أية حال – أن مثل هذه التنبوءات يمكن أن تتحول وبنفس القدر إلى نبوءة ذاتية التحقق، إذا انجذب أولئك المحتمل أن ينضموا إلى مشاهدة أحداث العنف، إلى مسرح الأحداث نتيجة الدعاية المسبقة عن احتمال وقوع تلك الأحداث.
وإذا تفحصنا حياتنا الشخصية والعامة سنجد أن جزء كبير من سيناريوهات الحياة هي أوهام نصدقها، وقد نسعد بتصديقها وندافع عنها، ونقاوم أي محاولة لكشفها وتكذيبها، إن الأوهام هي من أكثر الحقائق التي نحياها. إنها تشكل حيز واسع من الممارسات الإنسانية الشاعرية والعنيفة، بداية من أوهام المحب الذي يصنع بخياله صفات المحبوب فيصدقها ويسعد ويشقى بها، إلى حالة ” العقائدى المتعصب” الذي يفترض العدوان فيعتدي. ومع ذلك فإن الأوهام ليست سلبية على الدوام لأنها تؤدي وظيفة، فالواهم ليس بالضرورة شخصا ترهقه الأوهام، بل قد تكون هي مصدر سعادته أو دافع حياته، ولذا يقال: “توقع الخير تجده”، وكان المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشى قد قال: “على المناضل أن يعصب عينيه بعصابة من الأوهام” حتى يمكنه أن يواصل.
إن الأوهام ظاهرة إنسانية عامة لا تقتصر على زمان ومكان محددين، ولكن إذا كانت المجتمعات القديمة قد عاشت أوهامها وأساطيرها بعفوية، فإن المجتمعات الحديثة باتت أكثر احترافا في صناعة الأوهام، فهي، أي الأوهام الآن، ليست تعبير عفوي ومتناغم مع تفاصيل الحياة اليومية كما كان في السابق، إن أوهام المجتمعات الحديثة استثمارية واحترافية، فلم نعد نتوهم السعادة والصحة والجمال بعفوية ومجانية، بل إننا نسعى بوعي وأهم إلى إمتلاكها، فهي منتجات وسلع نشتريها.