يعتبر الفول المدمس الأكلة الشعبية الأولى في مصر بلا منازع، فكل صباح يستهلك المصريون ملايين السندويشات وأطباق الفول في البيوت والمطاعم والفنادق، وستجدهم ملتفين حول عربات الفول التي المنتشرة داخل المدن والقرى وعلى الطرق السريعة في طقس يومي في تجمعات أشبه بمنتديات لأحاديث عابرة تتناول إلى جانب الفول أمور أخرى تتعلق بشئون الحياة والسياسة وكرة القدم. وعلى مدار العام يظل الفول المدمس حاضرا بقوة، ولا تتوقف القدور عن الغليان المسائي عادة من أجل إنضاجه من أجل أن يكون جاهزا للاستهلاك في الصباح الباكر. وفي شهر الصيام لا يخسر الفول نفوذه، بل على العكس يجد مكانه على موائد الإفطار، وقد يفرض ذاته بلا منازع في وجبات السحور. وفي صيام أقباط مصر يظل الفول المدمس حاضرا على الموائد. وهكذا يكون الفول المدمس مشتركا انسانيا وثقافيا بامتياز.
وعلى الرغم من أن العديد من البلدان تعرف الفول كغذاء للإنسان أو للحيوان، إلا أن الفول المدمس يظل خصوصية مصرية وطقس غذائي ربما يصعب على كثير من المصريين عدم ممارسته. وتعني كلمة “مدمس” المدفون أو المخبوء حيث يوضع الفول في قدور ويدفن فى رماد الفرن (أو المستوقد) حتى ينضج. وتشير الكثير من الكتابات إلى الأصول الفرعونية لصناعة الفول المدمس، والبعض يرى أن كلمة مدمس له أصل في اللغة القبطية. وفي رواية شائعة في العديد من الكتابات الصحفية، تعزى كلمة “مدمس” إلى الطاهي الأول للفول المدمس في مصر القديمة وهو شخص يونانى اسمه “ديموس” وكان يمتلك حماما عموما، وحيث أن خلفية الحمام بها مستوقد لتسخين المياه، فقد استغله مالك الحمام لانضاج الفول في قدور، وهكذا سمى الفول المدمس باسمه. وأىا كانت النشأة، فإن أصل الفول المدمس يعود إلى مصر القديمة، وظل طهيه بدفن القدور في المستوقدات، وذلك قبل أن تظهر وسائل الطهي الحديثة ليدخل الفول المجال الحضري في المطاعم في الخمسينيات من القرن الماضي. وشأنه شأن غيره من المنتجات الغذائية فقد دخل الفول عصر الحداثة ليباع في معلبات مستوردة من الخارج. ومع ذلك فإن نجم قدرة الفول البلدي لم يأفل بعد حتى بعد تحولها من الفخار إلى المعدن.
وهذا التجذر في المجتمع جعل من الفول المدمس حالة ثقافية نجدها في الثقافة الشعبية والأمثال والمقولات وكذلك الأغاني وفنون الرسم والنحت. فكثير من المقولات والأمثال الشعبية أثنت على الفول بحس فكاهي ومنها: “إن خلص الفول أنا مش مسئول”، “كُل فول وصلي على الرسول”، “اللي يشوف الفول ولا ياكلش يحب ولا يطولش”. وهناك من الأمثال ما يشير إلى علاقة الفول بالنظام الطبقي والتفاوت الاجتماعي: “إللى ياكل الفول يمشى عرض وطول ..واللي ياكل كباب يبقى ورا الباب”، “الفول في الصباح أكل الامير والظهر أكل الفقير وبالليل أكل الحمير”. كما أن هناك من الأمثال الشعبية ما يستخدم رمزية الفول للتعبير عن جوانب أخرى في حياة البشر مثل النميمة “ما تتبلش في بقه فوله”، أو التشابه “فولة واتقسمت نصين”، والتقديرات الاجتماعية “كل فولة ولها كيال”.
وعلى مستوى الأغنية، فقد كان للفول حظ ليس بالقليل في أعمال غنائية غالبا ما ترتبط بشهر رمضان. ولعل من أشهرها أغنية صباح وفؤاد المهندس “الراجل ده هيجنني” والتي تتحدث بحس فكاهي عن النهم للطعام في شهر الصيام، ولكن في النهاية وبعد إعداد كل صنوف الطعام، يفوز طبق الفول: “ونرص الأكل على السفرة أشكال و ألوان .. والفول أبو زيت أصلي بحبه في فطور رمضان … يسيب الأكل كله ويمسك طبق الفول .. ولقمة تجر لقمة يشبع ويقوم على طول … “. ومن الأغاني الأخرى الشهيرة والمخصصة للفول المدمس أغنية كارم محمود: المدمس… ما تقول كويس .. اللوز يا ريس .. تعالى غمس من المدمس”. ويذكر الفول في أوبريت “اللي يقدر على قلبي” في فيلم عنبر لليلى مراد، كرمز لهوية الشخصية المصرية الشعبية، عندما يقول الفنان محمود شكوكو: “بلدي ومدردح وإذنجى واكسب جنيهات وبنيت م الفول والطعمية أربع عمارات”.
وعلى الرغم من أن الفول في المجال العام ظاهرة تخص الرجال أكثر من النساء، فعربة الفول حالة ذكورية بالأساس، إلا أن صورة المرأة المصرية وهي ترتدى الملاية اللف وتحمل طبق الفول كان دائما تعبيرا عن الهوية المصرية الشعبية النسائية، وهذه الصورة نجدها فى أعمال سينمائية ودرامية، وبالمثل فقد حظيت قدور الفول وعرباته باهتمام فنون الرسم والنحت، ويرتبط الكثير من الرسومات الرمضانية بالمسحراتى، وصانع الكنافة والقطائف، وكذلك عربة الفول.
وقد استطاع المصريون أن يجعلوا من الفول وسيلة للتحايل على المعايش وصعوبات الحياة، فهو ذلك النوع من الغذاء الذي يمكن تناوله بأكثر من طريقة فيكون أساسا لأكلات متنوعة، فهو الطعمية، والفلافل، والفول النابت، كما أن الفول المدمس يتنوع بالإضافات كأنواع الزيوت والبهارات وغيرها من الإضافات كالبيض أو اللحم المفروم، فيبدو وكأنه غذاء مختلفا حسب طريقة صنعه. وهكذا أصبح الفول سلاح فقراء المصريين للتعايش مع واقعهم بإبداعات غذائية محورها الفول. إنها إبداعات المصريين مع الفول فى الغذاء والثقافة والفنون، إبداعات تعكس خصوصية مصرية بامتياز.