يحمل مجتمعنا البشري علامات حروب وصراعات تغذي الكراهية والعنف, وقد حدث في الآونة الآخيرة تغيرات عدة فانتشرت الجريمة وهذا الوضع لا يعبر إلا عن تفشي الشر في المجتمعات البشرية.
وقبل ألفي عام مضت كان المجتمع علي نفس الشر, فقد نعتهم مرة السيد المسيح بـ الجيل الشرير وهذا بالطبع بجانب شر المستعمر الروماني الذي استشري في استعباد الشعب وممارسة أشد مظاهر العنف ضده, هذا الشر المتبادل جعل الأمر يزداد سوءا.
لكن الغريب أن وسط كل هذا الشر تظهر الملائكة في ليلة ميلاد السيد المسيح لرعاة متبدين يحرسون أغنامهم في ليل بيت لحم القارص لتعلن لهم ولكل العالم رسالة السلام قائلة: المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام, وبالناس المسرة. وقد قال نبي الله زكريا عن السيد المسيح بروح النبوة إن المسيح جاء ليضيء علي الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام.
كان اليهود آنذاك يرون أن المسيح سيأتي فقط ليخلصهم هم, وأن وعود العهد القديم حصرية عليهم, كما كان اليهود آنذاك يحقرون من كل مختلف عنهم, لكن رسالة المسيح كانت عكس ذلك تماما, فرسالة المسيح والتي بدأت وتمثلت في ميلاده هي رسالة كونية, غير محصورة علي جماعة بعينها. هي رسالة أن الله يحب الجميع, مهما كان شره.. الميلاد في مضمونه العميق هو رسالة المساواة بين الجميع والقبول.
وفيما بعد, في حياة السيد المسيح وضحت هذه المفاهيم, إذ كان يذهب يسوع بين الخطاة المنبوذين, والعشارين المكروهين من الجميع, بل وكان يأكل معهم وهنا أدانه علماء اليهود قائلين: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟ فلما سمع يسوع قال لهم لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي فاذهبوا وتعلموا ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلي التوبة.
هل فكرنا من قبل في مضمون هذه الكلمات؟. يقول السيد إن ما يريده الله منا ليس أعمالا صالحة جوفاء وليس كلمات معسولة علي الشفاه, ما يريده الله منا ليس إلا الرحمة, الرحمة بمفهومها الواسع فالميلاد يذكرنا أن الله يحب جميع البشر حتي السييء منهم وأن حبه غير مشروط وبلا مقابل وعلينا نحن أيضا ونحن نحتفل بالميلاد أن نتعلم هذا الدرس القيم.
الميلاد أيضا يعلمنا التواضع, لكن إن نظرنا للعالم حولنا سنجد أن الكبرياء متفشية مما يعزز الرغبة في الاستحواذ وفي الهيمنة وهكذا فإن الحرب التي تحدث في العالم تولد أولا في قلب الإنسان, من الأنانية والكبرياء, ومن الكراهية التي تؤدي إلي التدمير, وإلي سجن الآخر في صورة سلبية, وإلي استبعاده وإلغائه.. الحرب تتغذي من تحريف العلاقات, ومن طموحات الهيمنة, ومن إساءة استخدام السلطة, ومن الخوف من الآخر ومن الاختلاف الذي يعتبر عقبة.
كل ما سبق هو سبب من أسباب أشد المذابح دموية حدثت عبر التاريخ, يوم قرر هيرودس أن يقتل الأطفال الأقل من سنتين خوفا علي عرشه لا نعرف كم قتل بالضبط, مئات أم آلاف أم أكثر, لكن كل ما نعرفه أن هناك أطفالا أبرياء قد قتلوا بدم بارد, بسبب رغبته المريضة علي الهيمنة, وبسبب حبه للسلطة.
لكن المسيح كلن علي النقيض, إذ يوصينا السيد: تعلموا مني, لأني وديع ومتواضع القلب, فتجدوا راحة لنفوسكم ومنذ ليلة ميلاده كان وديعا ومتواضعا, فلم يولد في قصر بل في مذود بسيط, عاش شخصا عاديا, اقترب من الجميع, لم يفرق بين غني وفقير, بين الأبرار المشهور برهم أو بين الخطاة المفضوحة خطاياهم, كان قريبا للجميع بل كان يتكئ ويأكل مع المنبوذين والمرفوضين.
لم يبحث السيد ـ وكان هذا في استطاعته ـ عن منصب أو مركز, كان له أن يكون معلما للشريعة, فمثلا يخبرنا البشير متي قائلا: ولما جاء إلي وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتي بهتوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟ وفي مجمع كفر ناحوم وقف ليعلم فتعجب كل من سمع, ويخبرنا البشير مرقس فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة.
كان السيد المسيح صانعا للمعجزات, شفي عميانا وعرجا وبرصا, بل وأقام موتي. كان له أن يستغل ذلك ليصنع لنفسه شعبية, فيجمع الشعب خلفه ويصنع من نفسه بطلا شعبيا, وإن فعل هذا لن يلومه أحد علي شيء, لكنه لم يفعل, بل أكمل رسالته معلنا أن الله يحب الجميع, دون تفرقة, يحبهم مهما كان بهم من شرور ومهما كان فسادهم.
ميلاد السيد المسيح وحياته يقدمان لنا مثالا لنحتذيه, أن نحب بعضنا البعض, لا يتكبر أحد منا علي الآخر, بل بالعكس علينا أن نتضع, ولا ندع بحثنا عن المكاسب والمناصب ينسينا أننا جميعا متساوون, جميعنا بشر رغم اختلافاتنا سواء في الدين أو العرق أو اللون جميعنا أمام الله.
لذا ونحن علي مشارف عام جديد علينا أن نقف وقفة مع أنفسنا, ونعمل معا من أجل ترسيخ مبادئ الأخوة والمساواة والاتضاع, التي تبني بشكل عميق علي أساسها المشترك في الله الذي خلق الجميع سواء, الله الذي يشرق شمسه علي الجميع ـ الأشرار منهم والصالحين وهذه المباديء نمارسها عبر الحوار والثقة المتبادلة. فالسلام رغبة موجودة بعمق في قلب الإنسان ولا يجب أن نقبل بأقل من ذلك.
نهاية.. أود أن أقدم للجميع رسالة السلام والمسرة, متمنيا لمصرنا الحبيبة الرخاء, مصليا لشعبنا أن نعيش جميعا في محبة ووئام ورخاء.