قبل ألفي عام مضت, كان المجتمع اليهودي يعاني أشد المعاناة, فبجانب شر المستعمر الروماني الذي استشري في استعباد الشعب وممارسة أشد مظاهر العنف ضده, عاني الشعب من الفقر والمرض الشديدين, وسادت حالة من التبلد الروحي, والحرفية الدينية, فغاب الأمان والسلام من المجتمع, هذه الشرور المتزايدة عقدت أوجه الحياة, وجعلت الأمور تزداد سوءا.
في وسط هذه الأحوال الصعبة ظهر ملاك للقديسة العذراء مريم, مبشرا إياها بولادة السيد المسيح. وحين تحققت البشارة وولد المسيح, ظهرت الملائكة في السماء لرعاة مبشرة إياهم:ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب… المجد لله في الأعالي, وعلي الأرض السلام, وبالناس المسرة,جاء المسيح ليعلن فرح السماء وسط الحزن المخيم علي العالم.
لايمكننا أن نجهل كيف أن المرض سبب رئيسي وأساسي للحزن, لذا كان الشفاء جزءا لا يتجزأ من إرسالية السيد المسيح للعالم الشقي, إذ يخبرنا البشير متي في إنجيله:فجاء إليه جموع كثيرة, معهم عرج وعمي وخرس وشل وآخرون كثيرون, وطرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم حتي تعجب الجموع إذ رأوا الخرس يتكلمون, والشل يصحون والعرج يمشون, والعمي يبصرون.
ما نراه في ميلاد السيد المسيح وحياته ومعجزاته,أن الله-مثلما يهتم بحياتنا الروحية- يهتم أيضا بأجسادنا واحتياجاتنا المادية,إلا أننا في أحيان كثيرة نفعل هذا الأمر, ظانين أن الله لايبالي بأحزان قلوبنا, وآلام أجسادنا, ودليل علي ذلك ما قاله السيد المسيح له المجد حين دخل المجمع في قريته, إذ قرأ كلمات من نبوة إشعياء النبي:روح الرب علي, لأنه مسحني لأبشر المساكين, أرسلني لأشفي المنكسري القلوب, لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر, وأرسل المنسحقين في الحرية, وأكرز بسنة الرب المقبولة,ثم طوي السفر وسلمه إلي الخادم, وجلس ,وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه, فابتدأ يقول لهم:إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم.
لكن الغريب أنه في زمن السيد المسيح ليس الجميع قبلوا رسالته, وأول من رفضوها هم أهل قريته, الذين قرأ الكلمات السابقة علي مسامعهم,إذ رفضوا يد السماء الممدودة لهم بالرحمة والشفاء والسلام والفرح, وأود أن أشير إلي أن رسالة المسيح التي بدأت وتمثلت في ميلاده, هي رسالة كونية بأن الله يحب الجميع.
وفيما بعد, في حياة السيد المسيح اتضحت هذه المفاهيم, إذ كان يذهب بين الخطاة المنبوذين, والعشارين المكروهين من الجميع, بل وكان يأكل معهم, لدرجة أن علماء اليهود هاجموه علي هذا السلوك قائلين:لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟فلما سمع يسوع قال لهم:لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي, فاذهبوا وتعلموا ما هو:إني أريد رحمة لا ذبيحة لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلي التوبة.
هل فكرنا من قبل في مضمون هذه الكلمات؟إن ما يريده الله منا ليس أعمالا صالحة جوفاء وليس كلمات معسولة علي الشفاه, ما يريده الله منا هي الرحمة الرحمة بمفهومها الواسع.
يذكرنا الميلاد بأن الله يحب جميع البشر حتي السييء منهم, وأن حبه غير مشروط وبلا مقابل, وعلينا نحن أيضا, ونحن نحتفل بالميلاد أن نتعلم هذا الدرس القيم.
ميلاد السيد المسيح وحياته يقدمان لنا مثالا لنحتذيه, أن نحب بعضنا البعض, لايتكبر أي منا علي الآخر, بل بالعكس علينا أن نتضع ولا ندع بحثنا عن المكاسب والمناصب ينسينا أننا جميعا رغم اختلافاتنا متساوون أمام الله. حين نعيش كأفراد ومجتمعات هذه الحياة الممتلئة بالتواضع, والبذل, والعطاء, حينها سنعيش في عالم أفضل, حين نتعلم أن نقدم الآخرين, سنختبر الفرح, لذا ونحن نستقبل عاما جديدا, بعد عام صعب مضي, دعونا نرفع عيوننا نحو السماء, ونفرد أيدينا داعين الله أن يملأ قلوبنا بفرح السماء.
وكل عام وأنتم بخير