قد يتساءل القاريء العزيز لماذا الكتابة عن العلامة القديس الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية, والكاتب الصحفي عالم الآثار الفنان كمال الملاخ في مقال واحد والجمع بينهما؟
الوقاع أن الاثنين نجمان من نجوم المجتمع المصري في القرن العشرين, ثم صديقان ارتبط كل منهما بصداقة وحب واحترام للآخر, وقد كنت شاهدا علي هذه الصداقة, ثم ارتبطت وتتلمذت علي يديهما وفكرهما وتعلمت منهما الكثير. كان الاثنان رجلي علم ودين وحب للبحث والثقافة والفن.
من الطريف أيضا أن يولد الإثنان في شهر أكتوبر, العلامة غريغوريوس في 13 أكتوبر 1919, والفنان كمال الملاخ في 26 أكتوبر 1918, ثم رحل الاثنان في شهر أكتوبر أيضا, الأنبا غريغوريوس في 22 أكتوبر 2001 وكمال الملاخ في 29 أكتوبر .1987
ورث الأول عن والديه حب الصلاة والذهاب إلي الكنيسة, كذلك ورث الملاخ عن والده حب الكنيسة وتراتيلها, فقد كان والده ذا صوت جميل وهو يرتل الألحان, ومن هنا نشأ محبا للصلاة والأخلاق طوال حياته.
أظهر الصديقان العلامة غريغوريوس وعالم الآثار كمال الملاخ حبا غير عادي للدراسة والعلم, بل كان اهتمامهما موسوعيا في العلم والثقافة, فكل العلوم هي اهتمامهما بل والفنون واللغات أيضا, ومن هنا كانا دائما من أوائل الطلبة المتفوقين والواعدين.
بعد حصوله علي شهادة [البكالوريا] الثانوية العامة الآن التحق الشاب وهيب عطا الله ـ اسم العلامة غريغوريوس قبل الرهبنة ورتبة الأسقفية ـ بالكلية الإكليريكية مباشرة, وحصل علي درجة البكالوريوس بتقدير ممتاز عام .1939 ولم يتوقف أو يكتف بل دفعه حبه للفلسفة أن يلتحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول ـ جامعة القاهرة الآن ـ سنة 1940 واختار قسم الفلسفة بالذات, للصلة بينه وبين علم اللاهوت, وتخرج سنة 1944, بعد أربع سنوات حاملا درجة الليسانس قسم الفلسفة. بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف. ثم دفعه حبه للعلم أن يدرس الآثار, فالتحق بمعهد الآثار التابع للجامعة عام 1950 وحصل بعدها بسنتين علي درجة الماجستير في الآثار المصرية واللغات القديمة بمرتبة الامتياز .1952
نفس الطموح وحب العلم والتاريخ والفن والآثار حدث لكمال الملاخ فبعد حصوله علي شهادة البكالوريا من المدرسة السعيدية الثانوية التحق بعدها بكلية الفنون الجميلة قسم عمارة وتخرج عام 1943, وكان من أوائل دفعته لذلك رأت الكلية أن تعينه مدرسا في قسم العمارة بها فأصبح مدرسا في نفس الوقت الذي كان الشاب وهيب عطا الله مدرسا بالكلية الإكليريكية, ثم اتجه الملاخ إلي دراسة الآثار, بتوجيه من عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, ودرس في معهد الآثار ونال درجة الماجستير علي يد عالم الآثار الفرنسي المعروف [دريتون] في الآثار وفقه اللغة المصرية. هكذا حصل النجمان علي درجة الماجستير في الآثار, واشتركا معا في العمل في لجان الآثار بوزارة الثقافة.
اكتشف كمال الملاخ مراكب الشمس في 26 مايو 1954 وأصبح نجما عالميا تحدث عنه وكالات الأنباء العالمية, وفي مجال الآثار اكتشف أيضا أول كوبري في التاريخ, وأعاد ترميم أقدم مسلة في مصر, وهو أول مصري يرمم أهرام مصر وأبو الهول وبرج العرب وجزيرة فيلة, وكان أستاذا في حضارة مصر وآثارها في الجامعات العالمية, وعضو مجلس إدارة هيئة الآثار. وكان العلامة غريغوريوس أستاذا زائرا في جامعة برلين الغربية (1978 ـ 1979) وعضو مجمع اللغة العربية وعضو المجالس القومية المتخصصة في شعبة التراث الحضاري والآثاري. عاش الأنبا غريغوريوس راهبا في الدير ثم راهبا من أجل خدمته في الدولة والكنيسة ليرعي شعبه طوال حياته. بعد حصوله علي بكالوريوس كلية الفنون سنة 1943 التحق الأستاذ كمال الملاخ بكلية الضباط الاحتياط, وتخرج فيها ليكون الأول علي دفعته, وربما يرجع ذلك إلي شخصيته القوية المنضبطة, فقد كان عسكريا في حياته, كل شئ بدقة وإتقان, يتعامل معه الجميع بشئ من الحذر لجديته واحترامه لعمله ووقته وحياته كلها. لم يتزوج هو الآخر وعاش راهبا في محراب العلم والثقافة ومن أجل أفراد عائلته كلها من أصغر طفل فيها لأكبر واحد, كان خادما للجميع فعلا حتي أصدقائه ومعارفه, إنسانا في تعامله, فمثلا كان لديه سائق سيارته وعندما باع السيارة واستغني عنها ظل يمنحه راتبه الشهري حتي توفي, كذلك كانت لديه مديرة بيت هي الست خضرة ظل يمنحها مرتبها بعد أن تركت العمل بل وكان يرعي أبناءها وأحفادها إلي أن رحل.
كمال الملاخ عمل في أكثر من مجال كان أشهره الآثار كعالم آثار, لكن الصحافة أخذته أيضا وأصبح من أشهر الصحفيين بعد أن طلب منه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أن ينضم إلي جريدة الأهرام ليعمل معه, واستطاع أن يجعل الصحفة الأخيرة الصفحة المقروءة الأولي وقد قلدته كل الصحف العربية, وكان القراء يقرأون جريدة الأهرام بداية من الصفحة الأخيرة (من الخلف).
الملاخ هو أيضا مؤسسة مهرجان القاهرة السينمائي والمهرجانات السينمائية في الإسكندرية والإسماعيلية وأسوان وغيرها وله في المكتبة العربية حوالي 32 كتابا منها: خمسون سنة فن, صالون من ورق, قاهر الظلام الذي تحول إلي فيلم سينمائي بطولة النجم محمود ياسين, كذلك من كتبه: بيكاسو المليونير الصعلوك, الحكيم بخيلا, هؤلاء دخلوا التاريخ, ذهب توت عنخ آمون وصدر باللغة الإنجليزية في أمريكا وصدرت ثلاث طبعات منه وفاز بلقب الكتاب الأول المباع في أمريكا سنة 1979 وترجم إلي اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية واليابانية والسويدية. وكان من الطبيعي أن ينال جائزة الدولة التقديرية, كذلك نال تقديرا عالميا منه موافقة جامعة كلورادو بأمريكا, مركز دراسات أبحاث الفضاءبها علي إطلاق اسمه علي أحد النجوم بمناسبة مرور أربعين سنة علي بدء اشتغاله في الدراسات والحفائر الأثرية, وبذلك يعتبر كمال الملاخ أول عالم مصري يطلق اسمه علي نجم في الفضاء.
العلامة الأنبا غريغوريوس ترك لنا تراثا غنيا من الكتب والمحاضرات, بلغ عدد الكتب 146 كتابا بعضها أجزاء وكتيبات صغيرة الحجم منها:
أهمية العقيدة الدينية الأرثوذكسية للحياة الروحية, القيم الروحية في عقائد وطقوس الكنيسة الأرثوذكسية, ثمانية كتب في هذا الموضوع. محاضرات في لاهوت المسيح. ما بين روما والإسكندرية وبيزنطة. الكتاب المقدس كتاب لكل العصور, الإلحاد المعاصر كيف نجابهه؟. أنت المسيح ابن الله الحي عدد 9 كتب في الموضوع. بستان الأنبا غريغوريوس: الكنيسة وقضايا الوطن.
وكان العلامة غريغوريوس عضوا بنقابة الصحفيين المصريين مثل كمال الملاخ, وربما كان هذا من أسباب الصداقة والتفاهم الدائم بينهما. وهنا أذكر طلب الفنان كمال الملاخ مني قبل وفاته بأشهر قليلة قال لي: فايز أنا عاوز الأنبا غريغوريوس يصلي صلاة الجنازة علي بعد الرحيل وكذلك صلاة الأربعين. ولم أستطع الإجابة وقتها ونقلت رغبته إلي نيافته فنظر إلي صامتا. وعندما رحل كمال الملاخ في يوم الخميس 29 أكتوبر 1987 أقيمت صلاة الجنازة يوم السبت 31 أكتوبر وقام العلامة غريغوريوس بالصلاة وألقي كلمة رائعة عن حياته تعبر عن عمق الصداقة بينهما.