تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والشعب القبطي والمصريون بشكل عام بالذكري المئوية الأولي لميلاد أحد عباقرة مصر وأبنائها المخلصين وهو الحبر الجليل الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات اللاهوتية العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي, ففي شهر أكتوبر الحالي تأتي ذكري ميلاده المائة (13 أكتوبر) وتأتي ذكري نياحته أيضا (22 أكتوبر). المصريون كلهم يعرفون نيافته لأنه كان مصري الهوية والهوي, زعيم ديني مسيحي يحب ويحترم كل المصريين, بل كل النسانية.
كان الأنبا غريغوريوس محبا وخادما للكل في كل موقع يعمل فيه, سواء في وزارة الثقافة أو الإعلام أو الصحافة, وكان يستخدم علمه الغزير في خدمة بلاده, وقد قام بتأليف سبعة كتب عن الكنيسة وقضايا الوطن, وكلها موضوعات تخدم الوحدة الوطنية والحب بين المصريين
كان العلامة غريغوريوس يكره التعصب, لذلك أحبه الجميع من قلوبهم, وكان يعظ داخل المساجد مثل ما فعل داخل جامع بدر بمديرية التحرير في يوم الجمعة 21 يويو 1967م.
عرفت أبي ومعلمي غريغوريوس من خلال عملي في الإذاعة والصحافة, وأجريت معه حوارات إذاعية عديدة أذعتها وقتها إذاعة الشعب من القاهرة, كذلك كتبت معه تحقيقات صحفية نشرتها جريدة وطني الغراء أذكر منها موضوع الجنة والنار, وموضوع الفرق بين اللغة الهيروغليفية والقبطية؟
كنت في شرخ الشباب, أحب الجلوس إلي العلامة غريغوريوس وأستفيد من علمه الغزير وحكمته وثقافته الفياضة, وهدوءه العجيب وتواضعه العملي, وكان يشجعني علي القراءة وبخاصة في الفلسفة, فعندما قرأ لي مقالا في جريدة وطني عن سقراط أبو الفلسفة وتلاميذه شجعني كثيرا وقال لي: الفلسفة أرقي المعارف وأهمها.
ومع تكرار اللقاء معه ولتواضعه اعتبرني صديقا له, فكنت أقابله كل أسبوع تقريبا, وساعد علي هذا اللقاء الدائم أنني أسكن في شارع مصر والسودان بجوار الكاتدرائية المرقسية الكبري بالعباسية وفيها يسكن أيضا العلامة غريغوريوس في أسقفية الدراسات العليا اللاهوتية والبحث العلمي, والمسافة لا تزيد عن خمس دقائق مشي مما سهل اللقاء. كان اللقاء كنز بالنسبة لي أن يكون هذا العلامة صديقا محبا متواضعا يجيب علي كل أسألتي وإستفساراتي. كان يتسقبلني بمنتهي الفرح فيفرد ذراعيه مرحبا بي قائلا.. أهلا بالفوز والفرح مما يجعلني أقول له ما أريد وأسأل سؤال
سألته عن الفرق بين اللغتين الهيروغليفية والقبطية؟ أجاب… اللغة القبطية هي بعينها اللغة المصرية القديمة كما كانن المصريون القدماء يتكلمونها وينطقونها, وقد حافظت عليها الكنيسة القبطية في طقوس صلواتها وكتبها ومخطوطاتها, بل وعاشت اللغة القبطية في اللهجة العربية الدارجة المستخدمة فعلا. كما يتحدث بها جميع المصريين مسيحيين ومسلمين, وهذه اللهجة العربية الدارجة تعيش فيها أكثر من تسعة الاف كلمة قبطية. وقد ذكر العلامة الأنبا غريغوريوس بعض هذه الكلمات وأهمها ومنها: بالعربية… أي هكذا, و,, برضه كده.. كلمة فبطية ومعناها بالعربية متورم. كاني وماني كلمتان قبطيتان معناهما سمن وعسل, كلمة (هوسة) نستخدمها دائما في التعبير عن ضيقنا من الأصوات المرتفعة والمزعجة وهي كلمة قبطية تعني التسبيح الذي يجب أن يكون بصوت عال مرتفع دكة كلمة قبطية معناها بالعربية مقعد أو أريكة.
الأطفال عندما يتغنون في أمسيات رمضان الكريم مرددين.. وحوي ياوحوي أيوحا.. ومعناها وأبوحا معناها القمر باللغة القبطية, أما معني الأغنية.. يافرحتي بقدوم القمر, إسم النيل يعود إلي الكلمة القبطية [ني يادور], من بين آثار اللغة القبطية [الحاء] المستخدمة للمستقبل كمثل قولنا.. أنا ح أسافر.. أو أنا ح أنام, أي سوف أسافر أو أنام. من الكلمات القبطية التي مازلنا نستخدمها بكثرة حتي الآن دائما كلمة [ليلي] التي يبدأ بها المطربون دائما أغنياتهم فيقولون: ياليلي ياعيني يا… كلمة ليلي هذه معناها فرح وابتهاج, فتكون الجملة علي بعضها.. ليلي ياعيني, تعني.. إفرحي وابتهجي ياعيني..
كانت عبقرية العلامة غريغوريوس تدفعه دائما للتعلم والدراسة, فقد كان يجيد أكثر من ثمان لغات هي: الهيروغليفية, القبطية, العبرية, اليونانية, الإنجليزية, الفرنسية, الألمانية واللاتينية بجانب اللغة العربية. كما شغله باللاهوتيات عالما فيها, بجانب حبه للفلسفة والآثار والتاريخ ومن هنا كانت الدولة تستفيد بخبرته وكفاءته في لجان حكومية وثقافية كثيرة, ومع ذلك كان يجد من الوقت ما يقدم الكثير للجميع.. كنت أشفق عليه من مسئولياته الكثيرة والتي يمارسها بحب وعمق.
وكان قداسة يمتاز بطول الوقت والتمعن واللجاجة. كنت أراه ملاكا أو قديسا يصلي وينفعل الشعب معه فنجد الجميع يرتل ويطلب.. إرحمنا.. إرحمنا..
ووسط مشاغله المتعددة لم يكن ينس أن يسألني في لقائي بنيافته عن كل فرد في الأسرة, الصغير قبل الكبير, وعن عملي وعلاقاتي وقراءاتي ويمدني بمؤلفاته والكتب الأخري التي كان يري أهمية أن أقرأها ويناقشني فيما قرأت. كنت أمكث معه في لقائه المسائي حتي منتصف الليل وأكثر حتي يداعي النوم عيناي فأقول.. ياسيدنا عايز أنام فيظل يتكلم ثم أقف حتي أظل مستيقظا وحتي يسمح لي بالإنصراف. وكان تلميذه الأكليريكي الصديق الأستاذ منير عطية شاهدا علي ذلك وكذلك الآنسة الفاضلة سهير فهيم.
كنت أعرض عليه مشاكلي, وفي لقاء رآني مهموما وسألني ماذا؟ قلت الحقيقة ياسيدنا عندي مشكلة مع أحد الشخصيات الكبيرة وقد اختلق هو هذه المشكلة وليس لي سبب فيها, وحكيت بالتفصيل… فقال… فعلا مشكلة كبيرة ولست أنت المسئول عنها لكنها شخصية مهمة فعلا وأنا أعرفه جيدا. وأشفق عليك منه, فحاول أن تنسي المشكلة.
كان الأنبا غريغوريوس بالنسبة لي الأب والمعلم والمرشد والمثل الأعلي, تعلمت من نيافته حب العلم والثقافة والدقة في الحياة, والوطنية وحب الإنسانية قال لي ضمن حواراته: لقد كان منهجي منذ شبابي المبكر, إني لا أقبل في أي مناقشة دينية, ولا أهاجم المسملين في عقيدتهم وأحرص فقط علي أن أجيب علي من يسألني, عن عقيدتي المسيحية في المسيح, وفي التتليت والفداء بما في المسيحية وإنجيلها, دون أن أتعرض لنقد الإسلام.
وما رأيك في رجال الدين الذين يهاجمون الأديان الأخري؟
أجاب: إني كمسيحي لا أرض لنفسي ولأي مسيحي آخر, أن يبني محبته لدين المسيح علي أساس عاطفي, ولا أرض لنفسي, ولا أي مسيحي آخر أن يظهر سمو المسيحية بالتحقير من دين آخر أو مهاجمته بأي صورة. فنحن ننظر إلي الإسلام علي أنه أقرب إلينا من اليهودية الحالية, وقد أعلنت هذا في مجمع الفاتيكان الثاني 1963, يوم أن كنت ممثلا لكنيستنا في المجمع كمراقب.
عاش نيافة العلامة غريغوريوس حياة بسيطة حافلة بالصلاة والصوم, لم يحفل بالمال ولا يعرف كيف يعده, ولا يأكل اللحوم والطيور وإنما كان نباتيا ويأكل الإسماك أحيانا, ويهتم بطبق السلاطة ويعده بنفسه, وفي صوم السيدة العذراء لا يتناول الأسماك وإنما يعيش وطوال اليوم علي الماء والملح مع إضافة الملوخية الجافة المعروفة باسم الشلولو, التي كانت تأكلها والدته.
ظل الأنبا غريغوريوس شعلة من النشاط والعظات والمحاضرات والمجاملات والعمل في لجان الدولة المختلفة من أجل سعادة وحياة كل المصريين إلي أن أجبره المرض علي الراحة بل أصابه بفقد الذاكرة, وفي آخر لقاء مع نيافته في كنيسة السيدة العذراء والأنبا بيشوي تحت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية قابلته وشددت علي يده بحرارة, وقال له تلميذه الأستاذ منير عطية… ياسيدنا ده الأستاذ فرح فايز فرح حبيبك فقال.. أنا أعرفه كويس لكن مش فاكر الاسم مما ذرع الحزن في قلبي! بعد ذلك مباشرة كانت جنازة نجمنا الكبير وأبي ومعلمي ولم أسترح إلا عندما سمعت قداسة البابا شنودة الثالث يقول:
العلامة الأنبا غريغوريوس شخصية نادرة لا يجود بمثلها التاريخ دائما.
الأسبوع القادم المقال الأخير في الذكريات وعنوانه: العلامة غريغوريوس والفنان كمال الملاخ.