نيافة الحبر الجليل المتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية, والعلامة المشهود له, أستاذ قداسة البابا شنودة الثالث وحبيبه, تمر خلال شهر أكتوبر القادم مائة سنة علي ميلاده, فقد ولد نيافته في أسوان في 13 أكتوبر سنة .1919
فهل تذكر الكنيسة هذا الراعي الصالح وتذكر ما قدمه للكنيسة والفكر المسيحي ومصر الوطن التي كان يعشقها؟
ولد الطفل وهيب عطا الله في أسوان في 13 أكتوبر 1919, من أب هو عطا الله جرجس بقطر, وكان يعمل صرافا بإدفو, تمتع بحياة روحية والمواظبة علي الصلاة بالمزامير والصوم, وكل مساء يجمع أبناءه ويحكي لهم حكايات من الكتاب المقدس. أما أمه السيدة تفيدة فكانت من مدينة نقادة تحب الكنيسة وتفرح وهي في طريقها إليها حاملة طفلها الرضيع وهيب. من الطبيعي أن ينشأ طفلنا محبا للكنيسة وتعاليمها والصلاة والعبادة, بل كان أحيانا يصل إلي الكنيسة قبل أن يصل الفراش فينتظره ليفتح له الباب ويستمتع بالصلاة والترانيم.
التحق طفلنا وهيب بالمدرسة الابتدائية سنة 1927 فأبدي اهتماما كبيرا بدراسته وقضاء واجباته في مواعيدها. بل كان متفوقا, مما دفع المدرسين الاهتمام به والجلوس معه. في هذه السن الصغيرة ـ تسع سنوات ـ كان يقرأ وحده. وقرأ الإنجيل في فصول صعبة علي سنه, لكن كان يقرأ ويسأل ليعرف. الطريف أنه جمع أفراد أسرته ليلقي فيهم عظة, فنظر إليه الجميع بإعجاب واستمعوا إلي كلماته البسيطة التي لا تخلو من حكمة… وكأنه يعبر عن مستقبله الذي ينتظره والمواهب التي يحملها. قال لأخته وهو في هذه السن أيضا.. إنني سأترهب في الدير المحرق. أربع سنوات قضاها الصبي وهيب في المدرسة الابتدائية حصل بعدها علي الشهادة عام 1931 بتفوق, ثم إلتحق بمدرسة حلوان الثانوية في القاهرة, وأقام بالقسم الداخلي فيها, وكان زميله عام 1932 الرئيس جمال عبدالناصر.
في شهر يونيو 1936 أدي الامتحان في أسيوط وحصل علي الشهادة, البكالوريا, وهي الثانوية العامة الآن بتفوق. توقع أفراد الأسرة أن يلتحق وهيب بكلية الطب لكنه اختار الكلية الإكليريكية, فقدوجد نفسه متجها إليها بكل رغبته وإرادته وكيانه, وحصل علي بكالوريوس الكلية الإكليريكية عام 1939 بتقدير ممتاز. بدأ بعدها خدمته بالكنيسة بشبرا.
دعا إلي الكهنوت أكثر من مرة لكنه كان يعتذر دائما حتي عام .1962 علي الرغم من رغبته في الدراسة الدينية إلا أنه كان يتشوق إلي دراسة كل العلوم بجانبها وبخاصة مادة الفلسفة. وفي عام 1940 ـ 1941 التحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة) واختار قسم الفلسفة بالذات للصلة القريبة بينه وبين اللاهوت.
تخرج في الجامعة عام 1944 حاملا درجة ليسانس آداب قسم الفلسفة بتقدير جيدا جدا مع مرتبة الشرف. وفي هذا يقول وهيب عطا الله: دراسة الفلسفة تغني إلي حد كبير عن دراسة الكثير من العلوم لأنها أرقي المعارف البشرية, ولأن دراسة الفلسفة نافعة للعقل وللدين.
طلب الأرشيدياكون حبيب جرجس ـ رئيس الشمامسة ـ من الأستاذ وهيب التدريس في الكلية الإكليريكية بعد تخرجه من الجامعة دون مرتب لمدة عام وقبل ذلك, وعمل معيدا بالكلية الإكليريكية, وحاول إضافة علوم جديدة مفيدة.
تمتع وهيب عطا الله بمواهب كثيرة تضعه في مرتبة العباقرة والعلماء, حماسة للعلم, مقدرة علي العمل بلا كلل, رغبة شديدة في البحث والصبر, عقلية ناضجة أسلوب متميز, وحب للغات المختلفة, كان يتمتع بإجادة عدة لغات هي: الهيروغليفية والقبطية والعبرية واليونانية والإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية, إلي جانب اللغة العربية. وكان قارئا ممتازا في كل نواحي المعرفة والثقافة.
دفعته رغبته الملحة للعلم والمعرفة إلي دراسة الآثار فالتحق بمعهد الآثار جامعة فؤاد الأول (القاهرة) عام 1950م وحصل علي درجة ماجستير في الآثار المصرية واللغات القديمة بمرتبة الامتياز عام 1952 وبعدها مباشرة سافر الأستاذ وهيب عطا الله إلي إنجلترا لدراسة الدكتوراه, بتشجيع من الأستاد الدكتور عزيز سوريال عطية, كان موضوع الرسالة عن الكلمات اليونانية في استخدامها القبطي أما المشرف عليها فهو العلامة, فالتر تل, الألماني المتخصص في الدراسات القبطية, بعد أن قابل المشرف علي الرسالة طالب الرسالة طلب من الجامعة إعفاءه من امتحان الماجستير اكتفاء بالإجازات العلمية التي حصل عليها قبل ذلك.
استطاع الأستاذ الدكتور وهيب عطاالله الحصول علي الدرجة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولي في 7 يوليو 1955م. خلال ثلاث سنوات فقط, وسط إعجاب جميع الأساتذة وأبناء الجامعة.
حياة الدكتور وهيب عطا الله, الأنبا غريغوريوس سلسلة حلقات متصلة متلاحقة قوية منذ طفولته يجمع بينها المشاكل والآلام والأوجاع والانتصار العلمي والروحي, وقد أعدها بدقة وحب وتعب تلميذه الإكليريكي الأستاذ منير عطية (منذ الميلاد في 13 أكتوبر عام 1919 حتي الرحيل في 22 أكتوبر .2001
أعدها في ثلاثة أجزاء. وهي موسوعة شاملة عن حياة قداسته وعمله في الإكليريكية والرهبنة والأسقفية والكتب والمحاضرات والقداسات, والحب الذي كان يجمع بينه وبين قداسة البابا شنودة الثالث.
كان هدف الرهبنة يداعب الدكتور وهيب عطا الله, فهو أمل الطفولة, لكن كانت هناك رغبات تسيطر عليه حب الإكليريكية والإيمان بها كرسالة مهمة والميل للرهبنة والتفرغ للتبتل والعبادة, وقد حسم قداسة البابا كيرلس السادس هذا الأمر وطلب من الدكتور وهيب التوجه للدير المحرق ورسم راهبا في يومي 15 و16 سبتمبر 1962 ـ السبت والأحد ـ باسم باخوم المحرقي, ورسم قسا وقمصا في يوم واحد. وظل القمص باخوم المحرقي ـ الدكتور وهيب عطا الله: يمارس عمله بالكلية الإكليريكية ومعهد الدراسات القبطية, بعد انتظامه في سلك الرهبنة.
تتلاحق الأحداث ويأتي اليوم المشهود, يوم الخميس 18 مايو سنة .1967 في هذا اليوم أناب قداسة البابا كيرلس السادس ثمانية من أحبار الكنيسة, منهم الأنبا شنودة أسقف التعليم في ذلك الوقت, ليحضروا بالنيابة عنه حفل تسليم التقليد لنيافة الأنبا غريغوريوس, أسقف عام الدراسات العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي, حضر أيضا بعض العلماء مثل الدكتور عزيز سوريال عطية والدكتور سامي جبرة وغيرهما. وفي الحفل ألقي الأنبا شنودة كلمة قال فيها:
عندما أتحدث عن الأنبا غريغوريوس, فلست أتحدث عن شيء خارج عني, إنه جزء من نفسي, وجزء من حياتي. هو مني وأنا منه, ونحن الأثنان واحد. لقد عشت والأنبا غريغوريوس صديقين من زمان طويل يرجع إلي سنة 1939م, عشنا حوالي 28 سنة معا متزاملين كنت عندما أجلس إليه أشعر أنه عقلي المفكر, وأشعر أنه قلبي النابض في صداقة عجيبة ندر أن رأي الناس لها مثيلا من قبل… يا إخوتي وياآبائي هناك بعض أشخاص تزينهم الرتبة, وتعطيهم الوظيفة عظمة.. وهناك أشخاص آخرون تنبع العظمة من داخلهم والأنبا غريغوريوس كذلك, ولم أره مطلقا صغيرا في حياتي, كان شابا صغير السن وكان أكبر من جميع الشيوخ الذين حوله, كنت بإستمرار أراه الشخص الكبير الهاديء المحنك الذي تنبع العظمة من داخله. وأرجو أن يكون أول عمل له كأسقف عام للبحوث, أن يراجع كتابي الذي كتبته عن (الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي).
هكذا كان الحب يحمع بين القطبين الكبيرين الأنبا شنودة الأسقف ـ ثم البابا شنودة الثالث ـ والأنبا غريغوريوس الأسقف العام وهو الدكتور وهيب عطا الله .
قدم الأنبا غريغوريوس في حياته أعمالا كثيرة, فقد كان أستاذا زائرا في جامعة برلين 1978 ـ 1979, عضو مجلس الكنائس العالمي, عضو مجمع اللغة العربية, عضو المجالس القومية المتخصصة, عضو لجان الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية. كما عمل بالوعظ والإرشاد, وقام بتأليف تسعين كتابا من 116 كتابا تم إصدارها ضمن منشورات أسقفية الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي. له أحد عشر مؤلفا باللغة الإنجليزية, وستون كتابا للمقررات تدرس في الكلية الإكليريكية في جميع فروع اللاهوت. في حفل تنصيبه أسقفا قال الأنبا شنودة أيضا: أحب أن أخبركم أيضا أن كتاب الزوجة الواحدة, الذي كتبته سنة 1985 الذي راجعه هو نيافة الأنبا غريغوريوس, راجعه كلمة كلمة, ومن تواضعه في مقدمة الكتاب بدلا من أن يقول راجعت الكتاب قال قرأت الكتاب.
كان الأنبا غريغوريوس شعلة نشاط سواء في العمل الرسمي الحكومي والتعليمي ووزارة الثقافة وهيئة الكتاب والإذاعة المصرية والعالمية والجامعة العربية والصحف المختلفة.
ورشح نيافته للبابوية مرتين لكنه كان يهرب من ذلك. لم تكن صحة الأنبا غريغوريوس تساعده علي العمل المتواصل والمشوار الجبار الذي يقوم به والسفر والتدريس والتأليف والصلاة الدائمة الطويلة, وهو صاحب أمراض منذ الصغر, فقد هاجمه المرض وأصيب بذبحة صدرية عام 1971 وبأزمة قلبية ثانية عام 1948 ثم بجلطة في المخ في 1994 وقد فعل قداسة البابا شنودة كل اللازم في علاجه في ألمانيا ثم في أمريكا وعولجت الجلطة لكن تأثيرها كان علي الذاكرة وفي 19 أغسطس 2001 اكتشف أن نيافته أصيب بسرطان في الكبد حالة متأخرة, تنيح يوم الاثنين 22 أكتوبر 2001 ودفن بجوار القديس أثناسيوس الرسولي حسب وصيته في الكاتدرائية.