علاقة نجيب محفوظ بالمقاهي ليست لغزا، فثمة كتابات وأقوال عديدة عن هذه العلاقة التي اسهمت في انتاج أعمال روائية عظيمة، فهي ليست لغزا بقدر ما هي أخاذة ومبهرة، فلم تكن علاقة شخص بمكان، ولكنها علاقة هوية مصرية لشخص جعله المكان غير عادي، وجعل الأماكن التى ارتادها جزء من هويتنا الثقافية.
وحسب مختلف الكتابات، فإن علاقة نجيب محفوظ بالمقاهي تبدأ من الطفولة عندما كان يصطحبه والده إليها، وهكذا كانت المقاهي نافذته إلى الفضاء العام قبل أن تكون نافذته إلى الأدب. ومن الكتابات الشيقة عن مقاهى نجيب محفوظ ما كتبه الكاتب التونسى رشيد الذوادى متعقبا رحلة نجيب محفوظ فى مقاهى القاهرة، يقول الذوادى “بالنسبة إلى هذا الكاتب القدير، لم يكن مكانا للتسلية، بل مثل (المقهى) بالنسبة إليه (المركز) و (أعماق الحياة الشعبية). وبالتالى اتخذه الكاتب كخلفية كاملة، ليستمد منه الترحال مع شخصياته الروائية ونماذجه الشعبية، ومنظومة قيمه وحتى المعايير العامة لبنية الأفكار والسلوك”. ويضيف الكاتب: “… وينفرد نجيب محفوظ -ولعله الوحيد من الكتاب- ببراعته فى تصوير مناخ المقاهى ونقل الحوارات العميقة لما يجرى فى أعماقها، سواء بين المثقفين وغيرهم”.
وفي مساره عبر المقاهي كان نجيب محفوظ “الأستاذ” المركز الذي يتجمع حول الكتاب ليتواصلوا ويتعارفوا في أجيال متعاقبة، ولكن الأكثر إثارة للاهتمام هو مجموعة الحرافيش التي ضمت كوكبة من الكتاب والفنانين منهم الفنان أحمد مظهر الذي أطلق اسم “الحرافيش على المجموعة، والمخرج توفيق صالح وغيرهم. وفي هذا السياق يقول الكاتب أحمد عبد العال رشيدى في موقع “رصيف 22” أن هذا اللقب {الحرافيش} جاء عندما كان الأستاذ يلتقي برفاقه في مقهى قشتمر وكانوا: “يناقشون في كتاب “تلخيص الإبريز في وصف باريس” للأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي. وقد صادفهم أن المنفلوطي ذكر في كتابه أن هناك مقاهي في باريس مخصصة للصفوة وعلية القوم، وأخرى مخصصة للمهمشين والبسطاء والحرافيش”. وهو ما دفع الفنان أحمد مظهر إلى أن يطلق اسم الحرافيش على المجموعة. وفي هذا الأجواء أنتج محفوظ رواية تحمل الإسم ذاته، فضلا عن كتابة روايته “ثرثرة فوق النيل”.
وحسب رشيد الذوادي، فقد اعتاد نجيب محفوظ مبكرا في عام 1945 أن يلتقي مع الأدباء والمريدين في مقهى “الأوبرا” في الأربعينيات والخمسينيات وحتى عام 1962، ثم انتقل إلى مقهى “سفنكس أمام سينما راديو وواظب على الذهاب إليها حتى إغلاقها عام 1978، لينتقل بعدها إلى المقهى العريق بشارع طلعت حرب وهو مقهى “ريش” والذي كان قبلة الأدباء والفنانين منذ تأسيسه. وعلى الرغم من أن مقهي ريش لا يرتبط كثيرا بالصورة المتخيلة عن علاقة محفوظ بالقاهى مثل مقهي الفيشاوي مثلا، إلى أنه عبر عن إعجابه بهذا المقهى، حيث قال: “هنا في هذا المقهى تراقب الأحداث، وتسمع الجديد من الناس فتوصل إلى جمهورك وقرائك ما لم تستطع إيصاله لهم بالكتابة”. ومن مقهى ريش بشارع طلعت حرب الذي شاءت الظروف أن يغلق بشكل مؤقت في منتصف السبعينيات يتحرك نجيب محفوظ بمجلسه إلى مقهى “لاباس” بشارع قصر النيل ثم إلى “كازينو قصر النيل” ومقهى “ركس” بشارع عماد الدين”.
وفي هذه الأثناء وقبلها كانت علاقة نجيب محفوظ بمقاهي الحسين وخان الخليلي وباب الشعرية والعباسية قائمة ومنتظمة، ومن أبرزها مقهى “الفيشاوي” الذي ارتاده منذ عام 1968، وعبر عن متعته في أن يذهب إلى هذا المكان وخاصة في الأمسيات الرمضانية. وثمة مقاه آخرى اعتاد محفوظ الذهاب إليها بمفرده كمقهي “سوق الحمزاوي”، ومقهى “سى عبده” بخان الخليلي الذي ارتبط بكتابة الثلاثية. وفي وسط البلد كانت جلسات محفوظ الصباحية في مقهى “على بابا” بميدان التحرير. وفي الاسكندرية كانت جلساته على مقهى وحلواني “ديليس” بشارع سعد زغلول، ولكن كما أورد الصحفي وائل توفيق بموقع النبأ، ثمة مقاه أخرى بالإسكندرية اعتاد محفوظ أن يرتادها وهي مقهى “الترام”، ومقهى “الكريستال”، ومقهى “تيرو” ومقهى “بيترو”.
ولكن بعد محاولة اغتياله غادر محفوظ عالم المقاهى وبات يلتقى مريديه في الفنادق، ومع ذلك فقد ظلت ذاكرتنا عن نجيب محفوظ مرتبطة بالمقاهى الشعبية التى ارتادها فأعطته حياة وأدبا، وأعطاها ذاكرة وعشق. ولكن مع الأسف، وكما ذكر الصحفي محمد عبد الرحمن بجريدة اليوم السابع، فإن بعض هذه المقاهي قد تم اقتلاعه من الذاكرة فقد تحول مقهى “قشتمر” الذي شهد ميلاد مجموعة الحرافيش إلى “مقلب قمامة”، ومقهى “على بابا” إلى أطلال.