العلاقة بين الهويات والاختلاف علاقة وجود، فالاختلاف سمة الهويات وبدونه لا تكون، كما أن الهويات تبني من أجل إظهار الاختلاف والتأكيد عليه. ومن المعروف أن الهويات الدينية تتمايز من حيث الطقوس والشعائر والكثير من الممارسات بما في ذلك الزي والطعام وحتى طريقة السلام والتحية والمواساة. مسلسل طويل من التمايزات. وتعد والرموز الدينية أحد أهم ركائز اختلاف الهويات، ولذا فهي تحظى بالقداسة لكونها العلامة على هوية الشخص ومعتقداته. ولكن الهويات، بما تحمله من علامات ورموز، لا توجد في فراغ ثقافي، بل على العكس فمن الشائع أن تصطبغ الهويات الدينية بصبغة ثقافية واجتماعية، وتختلط الثقافة والتقاليد والمعتقدات الشعبية لتسهم في تشكيل وصناعة الهويات الدينية, وكما يؤدي ذلك إلى التمايز والاختلاف، فإنه يكشف كذلك عن الكثير من التداخل والتشابه بين الهويات الدينية. ومن الأمثلة على ذلك “السبحة”، ذلك الرمز الديني الذي يوحى بالاختلاف، ولكن بتتبع مسار نشأة “السبحة” وتطوراتها نكتشف التداخل والتشابه ليصبح الرمز عابرا للهويات الدينية. وفي هذا المقال أستعرض ما ورد في أحد الدرسات الفلوكلورية المنشورة في مجلة الفنون الشعبية العدد 103/2019 للباحثين إبراهيم عبد العزيز وعادل موسى، وهي دراسة شيقة عن “السبحة” كمنتج حرفي جمالى وكرمز ديني.
وفق هذه الدراسة فإن بداية تاريخ السبحة غير معروف، ولكن تاريخها قديم حتى قبل ظهور الأديان الكتابية حيث استخدمها البوذيون في المعابد منذ ما يقرب من 3000 عام، وإن لم تكن بنفس الشكل الذي نعرفه الآن. وتوضح الدراسة رمزية السبحة في اليهودية والمسيحية والإسلام، حيث نكتشف التداخل والتشابه وبعض نقاط التمايز. “فقد استخدم أتباع الديانة اليهودية سبحا تتكون من 45 حبة، فى إشارة إلى صوم سيدنا موسى 40 يوما للقاء ربه، مع زيادة 5 حبات كعدد فردي، وجميع الديانات على اختلافها مجمعة على تفضيل العدد الفردي، في إشارة إلى تفرد الخالق..”. ومع المسيحية تطورت السبحة وأخذت زخرفها وطريقة تقسيمها، فأصبح عددها 33 حبة فى إشارة إلى عمر السيد المسيح، وتم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام بفواصل في إشارة إلى الأقانيم الثلاثة الأب والابن والروح القدس، وتنتهي السبحة بحبة كبرى تسمى (المئذنة أو المنارة) في إشارة إلى توحد الأقانيم الثلاثة في إله واحد أو كنيسة واحدة، وتنتهي بالصليب أو ثلاث سلاسل تسمى الشرابة، تحمل في نهايتها رمزا مسيحيا مثل السمكة أو حبات العنب. ومع ذلك فإن هناك إلتقاء بين المسيحية واليهودية حيث تحولت السبحة في العصر الحديث من 33 حبة إلى 45 كما هو الحال في اليهودية، وتشير الدراسة إلى أن السبب يعود إلى أن المسيحيين يصومون الصوم الصغير اقتداء بصوم موسى.
وعلى الرغم من أن السبحة في مجتمعاتنا المعاصرة تبدو وثيقة الصلة بالإسلام، إلا أن الدراسة تشير إلى تأخر استخدام السبحة في الإسلام حتى العصر الأموي. والسبب أنها لم تكن من زخرف الجزيرة العربية، فهناك اعتاد المسلمون التسبيح بالأصابع اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل التحول إلى نوى البلح كطريقة للعد، ثم عقد عُقد في حبل، وهذا كان الحال في الجزيرة العربية، ولكن مع دخول الإسلام بلدان آسيا وشمال أفريقيا تم التعرف على السبحة كوسيلة تعبد، دم إدماج السبحة ضمن الرموز الدينية الإسلامية. وكان للصوفية دور أساسي في هذا الصدد نظرا لقربهم وانفتاحهم على الثقافة الشعبية. والسبحة في الإسلام هي ذاتها سبحة المسيحية، أي مكونة من 33 حبة وبفواصل، وهذا التشابه كان يلزمه تمايز لبيان الخصوصية الدينية، وهنا نقرأ في الدراسة: “.. فقد تم تأويل رموز السبحة المسيحية إلى رموز إسلامية، فالـ 33 حبة تشير إلى الـ 33 تسبيحة، تحميدة، وتهليلة، والحبة الكبرى ترمز للمئذنة وحبات العنب في الشرابة ترمز لاستخدام الزخرفة الإسلامية بعيد عن كل ما فيه روح من حيوان أو إنسان”. وتستعرض الدراسة كيف أن الفن الشعبي تجاوز الانغلاق الديني، فأصبحت السبحة، برمزيتها الدينية، نقطة إلتقاء الفن الإسلامي والقبطي، فإلى جانب كونها رمزا دينيا ووسيلة تعبد، إلا أنها باتت من أحد المنتجات الفنية الشعبية.
وهكذا فقد يكون اقتربنا من الجوانب الجمالية والروحية في تشكيل الهويات الدينية، سبيلا للتعرف على أنه خلف صرامة التمايز والاختلاف، ثمة طبقات رقيقة من التداخل والتشابه. وربما تمدنا الفنون والدراسات الثقافية والفولكورية بالكثير من أجل التعرف على هذه الطبقات الرقيقة والتي يمكن أن تكون تربة لنمو خطابات حول التعايش وقبول الاختلاف في مواجهة التعصب والانغلاق. وندرك تماما أن هذا قد يثير حفيظة الاتجاهات المحافظة والذهنيات المنغلقة، لأنها تتصور أن مهمتها المقدسة هي حماية الهويات الدينية، فيغالون في صناعة التمايز والاختلاف وإبرازه لتبرير دورهم كحراس على الهويات. والسبحة كنموذج قد لا تكون علامة على هوية دينية بقدر ما هي علامة على هوية إيمانية، فهي منالرموز الدينية التي يستخدمها الإنسان لمناجاة خالقه بدون وسيط، وفي هذه المناجاة يتشابه الفعل الإيماني، ومع همس المتعبد يخفت ضجيج الهويات.