“زواج … مايو من ديسمبر .. والعكس”، عنوان مقال عن زواج كبار السن من فتيات صغيرات، وقد تم نشر هذا المقال فى العدد الأول من مجلة روزاليوسف الصادر فى 26 أكتوبر عام 1925 فى باب بعنوان “نسائيات” بتوقيع الآنسة حكمت. والشيق أن “الآنسة حكمت” هو الاسم الذى ابتدعه الصحفى الكبير “محمد التابعى” ليكون توقيعه على هذا الباب.
وفى مقاله المذكور تناولالتابعى (أو الآنسة حكمت) ظاهرة زواج كبار السن من فتيات صغيرات، والذى يمكن أن نطلق عليه كذلك زواج القاصرات، والمسألة لا تتعلق فقط بفرق السن، ولكن بحقوق الفتيات فى التعليم وتقرير مصيرهن واختيار حياتهن، وعنوان المقال ساخر ودال، ففيه مجاز عن الاختلاف وعدم التكافوء، فهل يصح تزويج مايو لديسمبر؟ أو هل يصح تزويج صغيرات السن وهن فى مقبل عمرهن، بكهول فى نهاية حياتهم؟ هل من المنطقى تزويج ما قبل منتصف العام من نهايته؟ أو تزويج حرارة مايو من برودة ديسمبر؟
وفى هذا المقال نلاحظ هذا الوعى المبكر بانتهاك حقوق الفتيات والنساء باسم الطاعة والأخلاق. فيكتب التابعى بلغة واضحة ومباشرة “حذار من زواج الكهل أو الشيخ”، ويوجه نصيحته وتحذيره “إلى كل فتاة ذات إباء وشمم تأبى أن تكون ضحية هامدة”.. ويوضح المقال كيف يتم تحايل الأهل على الفتاة لتقبل ما لا يجب قبوله باستخدام وسائل الترغيب والترهيب بزعم “طاعة الوالدين”، ويطالب الفتيات برفض ومواجهة وسائل الإغراء والتحايل والضغط ، فيقول: “إرفضى! إرفضى فى أدب ولكن بحزم وعزم”. ولكن الملفت هو نقد مفهوم الطاعة فى هذا الوقت المبكر: “قولى لهم أن الطاعة من سبيل التهديد والوعيد أمر قديم قد عرفناه وألفناه… ثم ألفنا بعده الدموع نذرفها فى سكون الليل والزفرات نصعدها وما من سامع وما من مجيب”.. وبلغة يتضح فيها الوعى المبكر بالحقوق الشخصية وحق الإنسان فى أن يقرر مصيره، يضيف: “قولى لهم أن حق السمع والطاعة واجب عليك إلا فيما يتعلق بحياتك … بنفسك … بشبابك .. بهنائك.. قولى لهم بحزم وعزم أنك تأبين أن تمشى بقدميك إلى القبر ولو كان القبر من ذهب”.
ويستعرض المقال مساوئ ومآسى هذا الزواج غير المتكافئ، فضلا عن الإشارة إلى أن هذه الزيجات تنتهك حق الفتيات فى التعليم حيث يتم إخراجهن من المدارس ويلقون بهن فى أحضان شيوخ ولا يرحمن شبابهن. ويصل إلى محطته الآخيرة موجها نقده اللاذع للأهل الذين زفوا ربيعها إلى شتاء زوجها.. وهو الباب الذى قد يدفع الفتيات إلى البحث عن الدفء فى مكان آخر. وهكذا تصبح فى عرفهم خاطئة، فيرجموها، ويعتبرونها مجرمة، ولكن الكاتب يوجه كلامه لولى أمرها فيقول “أقول أنها ليست المجرم الوحيد! المجرم الآخر يا سيدى الفاضل .. هو أنت!”
إننا بصدد نص من تراثنا الثقافى ينم عن وعى راق بجريمة الزواج غير المتكافئ و أولا وقبل كل شئ تزويج القاصرات، ونقد الترهيب والابتزاز باسم الطاعة، ورفض أن يتحول جسد الفتاةإلى سلعة تباع وتشترى فى سوق الزواج، وهو الأمر الذى يرتبط فى الغالب بتعدد الزوجات. وكل هذا يتم تناوله بلغة قوية وبسيطةفى الوقت ذاته فيها السخرية وفيها الحزم. وفى الحقيقة أن الموضوع أثار اهتمامى ليس فقط إنطلاقا من مقولة “ما أشبه الليلة بالبارحة”، ولكن لسبب آخر، وهو مثل هذا التراث الثقافى يمكن الاعتماد عليه فى تناول مشكلات الواقع الحالى، فنحن نجتهد من أجل رفع الوعى بمخاطر زواج القاصرات، وقد تكون مثل هذه الآراء النقدية، والتى هى جزء من تراثنا الثقافى، مصادر محلية فعالة فى نشر الوعى، فهى تحمل طاقة الماضى التى تحد من قوة مقاومة الأفكار ورفضها بدعوى أنها غريبة أو دخيلة. فلا شك أن هذا التراث الثقافى يمكن أن يدعمنا الآن فى مواجهة المشكلات ذاتها التى تصدى لها أجدادنا منذ عقود طويلة تناهز القرن.