بين خصوصية الأديان وعمومية المشترك الإنسانى
الحسنات والسيئات هى الحصاد الدنيوى الذى يحمله الإنسان معه إلى الحياة الأخرى، وهى بذلك ترتبط بفكرة البعث والحساب فى الآخرة. ولا يعنى أن الحسنات والسيئات ليس لها وظيفة فى الحياة الدنيا، بل على العكس تماما، فرصيد الأفراد منها يتحقق فقط خلال حياتهم ومن خلال أفعالهم الدنيوية. وهى وإن أخذت الطابع الدينى، إلا أنها وجدت من أجل تنظيم حياتهم الدنيوية دينيا واجتماعيا فى المقام الأول، أى ما ينبغى فعله لأنه حسن وما ينبغى تجنبه لأنه سيئ. وإذا فكرة الثواب والعقاب موجودة فى كافة أشكال الأديان والمعتقدات، إلا أن ثنائية الحسنات والسيئات إرتبطت بالإيمان بالبعث. وربما كانت الحضارة المصرية القديمة خير مثال على ذلك، ويعد كتاب “الموتى” الوثيقة الأساسية التى تبلور رؤية قدماء المصريين للثواب والعقاب، والحسنات والسيئات وهو عبارة عن مجموعة من أوراق البردى تحوى نصوصا وتعاويذ وأدعية وصلوات كانت تستخدم في مصر القديمة، لتكون دليلاً للميت في رحلته للعالم الآخر.
وفى كتاب “الحياة الاجتماعية فى مصر القديمة” يخصص مؤلفه السير فلندرز بترى، فصلا لعرض نظام “الحسنات والسيئات” فى هذه الحضارة القديمة. ويعتمد الكتاب تصنيفا للأفعال المرفوضة بوصفها سيئات ضمن مجموعات تتعلق بالسلوك والوجبات الدينية والدنيوية، والمعاملات والحقوق. وكل مجموعة تتضمن 5 بنود، وهو عدد أصابع اليد الواحدة، ومغزى هذا، كما يقول المؤلف، تسهيل حفظها وتلاوتها. ونذكر على سبيل المثال بنود المجموعة الخاصة بإنكار اقتراف السيئة وارتكاب الظلم والتى تتضمن خمس عبارات، هى: 1″. لم أتسبب فى مرض أحد، 2. ولم أتسبب فى بكاء أحد، 3. ولم أقتل، 4. ولم أحرض على قتل أحد، 5. ولم أتسبب فى حرمان إنسان من حق له.” وهى كما يظهر، من صيغة الإنكار،ترتبط بالنواهى، أى ما لا يجب فعله، أكثر مما تحث على ما ينبغى فعله. فالقتل من السيئات ويستأهل العقاب، ولكن عدم القتل لا يعد من الحسنات، ولكنه أمر واجب. وهكذا فإن صلاح الفردوالجماعة يرتبط بتجنب فعل النواهى أكثر مما يرتبط بفعل الخير على طريقة أن “المؤمن من أمنه الناس”.
ولعل الهدف من ذكر منظومة الحسنات والسيئات فى الحضارة المصرية القديمة، هو التأكيد على أن ثنائية الحسنات والسيئات لا ترتبط بدين أو معتقد بعينه، فقد ظهرت بظهور فكرة البعث، أى قبل ظهور الأديان الكتابية، وبالتأكيد أن تاريخ مبدأ الثواب والعقاب، حتى وإن لم يرتبط بالحسنات والسيئات، أبعد من ذلك. فمبدأ الثواب والعقاب ظاهرة إنسانية ارتبط دائما بتشكل الوعى بثنائية الخير والشر. ومع ذلك، فإن إرتباط الحسنات والسيئات بالأديان، أدى إلى أن معتنقى كل دين يتصورن أن دينهم أو معتقدهم هو الأصل والمعيار فى تحديد ما يمكن اعتباره حسنات أو سيئات.وقد يذهب المتعصبون لدينهم إلى اعتبار أن كل ما يفعله معتنقو الأديان والعقائد الأخرى يقع فقط فى خانة السيئات، ليس بسبب أن الآخرين لا يفعلون ما هو حسن، ولكن بسبب القناعة بأن أفعال الآخرين الحسنة لن تُقبل منهم.
ومن السهل الاقتناع بأن الثواب والعقاب، ومن ثم الحسنات والسيئات، ظاهرة إنسانية عامة وليست حكرا على دين أو ثقافة معينة. ولكن إقناع العقليات المنغلقة والمتعصبة بذلك ليس بالأمر السهل، وذلك لارتباط جوهر الحسنات أو السيئات، فى وعى الكثير من معتنقى الأديان على اختلافها، بالشعائر والطقوس الخاصة بدينهم، دون غيرهم. وعندما يعتقد المنتمى لدين معين بأن شعائره وطقوسه هى الوحيدة الصحيحة والمقبولة، فإن دائرة الحسناتتضيق لتصبح مقصورة على ممارسة هذه الطقوس الخاصة، فى حين تتسع دائرة السيئات لتشمل كل أشكال عدم الإلتزام بهذه الشعائر والطقوس، وتتسع أكثر لتشمل كل أفعال أصحاب الديانات الأخرى سواء كان سيئة أو حسنة.
لا شك أن من حق المنتمين لدين أو معتقد معين الالتزام بمبدأ الثواب والعقاب الذى تحدده تعاليم الدين أو المعتقد الذى يؤمنون به، ولكن المشكلة تظهر عندما يتصورون أن خصوصيتهم الدينية هى الوحيدة الصحيحة والمقبولة. فهذا الانغلاق فى التفكير يؤدى إلى إقصاء الآخرين وتكفيرهم. وعندما يتصورون أن شعائرهم وطقوسهم هى المصدر الرئيس لنيل الحسنات، فإن تركيزهم ينصب عليها ويتناسون أن ثنائية الخير والشر أكثر اتساعا ورحابة لأنهاترتبط بالمعاملات بين البشر فى عموميتها الاجتماعية والإنسانية، وليس بممارسة الشعائر والطقوس فى خصوصيتها الدينية. وفى الحقيقة أن الأديان ذاتها تتضمن الكثير من التعاليم التى تحض على الانفتاح وليس الانغلاق باعتبار أن “الدين المعاملة”.