توجد علاقة معقدة بين الطعام والكلام، بداية من التسمية وحتى الآداب والسلوكيات، مرورا بالهويات الغذئية. فالطعام، ككل شئ نعرفه شكله عندما نراه، ولكننا نعرفه فى غيابه من خلال كلمات وأسماء، ولذلك يمكن أن نطلبه مسبقا دون أن نراه. فالكلمات هى التى تعطى للطعام هويته. وفى حين أن من يتناول الطعام لا يعنيه كثيرا أصل الكلمات ولماذا تم تسمية الملح ملحا والسكر سكرا، فما يهمه بالأساس هو الحصول على الطعام وتناوله، ولكن حتى هذا الأمر يتغير حديثا، ففي الثقافة الاستهلاكية قد تغرينا الأسماء أكثر من الطعام ذاته، وكأن الكلمات هي التي تعطى الطعام هويته ومذاقه أيضا.
ويمكن القول أن تسمية الطعام ترتبط بالهوية الثقافية واللغوية، فالعيش البلدي، على سبيل المثال، كان يُطلق عليه قديما في مجتمعات الصعيد اسم العيش المصري، لأن الخبز المحلى “الأصلي” السائد وقتها هو العيش الشمسى فأُعتبر العيش البلدى دخيلا على قائمة الطعام، وقد اقتضى الأمر إبراز العلاقة بين الأصيل والوافد فتم تسميته “المصري” في إشارة إلى القاهرة والوجه البحرى. وبالمثل كانت علاقة المجتمعات الفلاحية قديما بالعيش “الفينو”، فهذا الاسم الغريب لم يكن يروق لهم، فتم استبداله بكلمة متداولة وهي العيش “الكيزان” من كوز الذرة وهو أقرب للخيال المحلي لوصف هذا النوع من الخبز الغريب عليهم. ومازلنا حتى الآن نجد اضطرابات الهوية الغذائية في تسمية بعض أنواع الطعام فيما بين الثقافات، فمثلا البطيخ يسمى في بلدان المغرب “الدلاع” وهذا الاسم بالنسبة لبعض المصريين غير مألوف إلا بمعنى “الدلع”، وعلى ما يبدو أن الارتباك يطال ماهية البطيخ ذاته حيث يتوقع البعض أن يتذوق شيئا آخر غير البطيخ لمجرد أن الاسم اختلف.
وفي الوقت الراهن، أو حديثا، يشهد العالم طفرة في العلاقة بين الطعام والكلام في ظل التضخم غير المسبوق في الثقافة الاستهلاكية، وزحف المطاعم ومحلات بيع المأكولات السريعة والجاهزة، ومؤخرا الانفجار الحاصل إعلاميا في برامج الطبخ، فقد دخلت وتدخل أنواع وأصناف جديدة من الطعام بمسميات مستحدثة ومشتقات لغوية غير مألوفة، وقد تظل مكونات الطعام كما هي ولكن بمسميات جديدة، فالكلام بات سيد الموقف. وهكذا أصبح الأمر أكثر تعقيدا، فعالمنا الذي يشكو من ندرة الغذاء هو ذاته الذي لا يكف عن تغذية قوائم الطعام بمسميات وأصناف هائلة، ومع هذا التضخم أصبحت العلاقة بين الطعام والكلام أكثر إرباكا، فالتسمية الجديدة تختلف عن الطريقة التقليدية في تسمية الطعام والتي هى مباشرة ومحددة ولا تستهدف سوى التعريف بالشئ. أما التسميات الجديدة فإنها تخاطب الخيال والنزوعات الثقافية، فالهدف منها جذب وإغراء المستهلك أكثر من التعريف بالطعام. ولذا نجد أن قوائم الطعام باتت أشبه بكشاف المصطلحات فهي تقدم شروحا لمكونات وصفات الشئ الذي نسميه طعاما، فاللحوم كتسمية توارت خلف مسميات عديدة يصعب حصرها وتحتاج دائما إلى تفسير. وبالطبع هناك أشخاص من محبي الطعام ومرتادي المطاعم على دراية بلغة الطعام المستحدثة، ولكن حتى هؤلاء عليهم أن يبذولوا جهدا، وينفقوا أموالا بالطبع، لتحديث قاموسهم الغذائي لملاحقة الكلمات والأسماء الجديدة. وفي هذا الزخم الاستهلاكى، باتت الأسماء هى الأكثر قوة والأحلي مذاقا، فثمة هوية غذائية جديدة، تلعب الكلمات فيها دورا محوريا، وهى مثل كل الهويات لها قوة دمج واستبعاد: من يعرف ومن لا يعرف، من ينتمى إلى هذا العالم ومن يقف خارجه. لقد دخل الطعام عالم الموضة، والتسمية هي رمز الموضة وعنوانها. إنه المجتمع الاستهلاكي بسطوته المادية واللغوية.
وعلى الرغم من أن هذا العالم الاستهلاك براق ومبهر، إلا أن الكثير من البشر يشعرون فيه بالغربة والاغتراب، فهناك من باتوا يأكلون أطعمة لا يعرفون أسماءها، وهناك من يتناولون أطعمة ليس لأنها طيبة المذاق ولكن فقط لأنهم يستطيعون نطق أسمائها، وأولا وقبل كل شئ أن هذا الإبداع اللغوى فى عالم الغذاء يقابله الكثير من الجوع والحرمان، وشكوى من ندرة الغذاء وتدني جودته.