مائة عام علي قيام ثورة الشعب المصري ضد الاحتلال والظلم والقهر والتفرقة الوطنية ومحاولة تقسيم الشعب المصري إيمانا بمقولهفرق تسد ثورة 1919 ثورة حقيقية وانتقاضة وطنية ضد الاحتلال وكل من يتعاون معه شارك المصريون كلهم فيها حتي رأينا القمص سرجيوس يخطب في الجامع الأزهر والشيخ يخطب في الكاتدرائية المرقسية بكلوت بك,حراك سياسي واجتماعي للشعب المصري كله,فقد شعر بواجبه ومسئوليته الكاملة عن نفسه ووجوده ومستقبله,ولأول مرة نسمع كلمات وطنية نابعة من القلب والوجدان…نموت نموت ويحيا الوطن…الدين لله والوطن للجميع…عاش الهلال مع الصليب…مصر
للمصريين…
من أبطال ونجوم ثورة 1919 فنان الشعب السيد درويش واسمه الحقيقي فعلا السيد درويش,كما ذكر الموسيقار والناقد الكبير عبد الحميد توفيق ذكي في كتابه:السيد درويش في ميلاده المائوي..وقد نشر في الكتاب صورة طبق الأصل من شهادة ميلاده.السيد درويش عبقرية موسيقية عبرت عن نفسها منذ طفولتها, ولم يجد هوي في دراسته إلا الموسيقي والغناء وتقليد الشيخ حجازي وترديد الأناشيد المعروفة وشجعه مدرس الموسيقي نجيب أفندي فهمي علي حفظ الأناشيد والغناء,وكان يبحث عن أي شيء يزيد معرفته الموسيقية, وعندما رأي وهو في طريقه للمدرسة بائعا للكتب وقف يقرأ عناوين الكتب وبسرعة التقط كتابا تحت عنوان:مبادئ الموسيقي الشرقية واشتراه وعاد إلي البيت يقرأه أكثر من مرة…علم نفسه وساعدته موهبته في التألق وتوهج عبقريته الفنية حتي أصبح فنان الشعب فعلا…كان يمشي في الشوارع والحواري وراء الباعة الجائلين يسمع نداءاتهم ويأخذها في ألحانه, ويقدمها بطريقة فنية جميلة أقبل عليها الشعب وأخذ يغنيها مثل أغنية السقايين,مليحة جوي الجلل الجناوي,شد الحزام علي وسطك وإحنا الأبوكاتية وياما شاء الله ع التحفجية وغيرها.
يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد:
مهد السيد درويش بنشاطه الفني للتطور الاجتماعي في أحوال الطوائف الصناعية خاصة حيث لاتختلط هذه الأدوار بالأدوار الفردية فأن أناشيده علي ألسنة الحوذية وباعة الدجاج وباعة اليانصيب وتجار الفحم والمراكبية كانت تمهيدا فنيا لاشك فيه لشيوع النقابات وانتباه كل طائفة من الطوائف إلي وحدتها الاجتماعية.
ويقول فناننا الكبير السيد درويش عن فضل الباعة عليه والشعب من خلاله سماعه لهم ولكل تراثهم…شعرت بفضل الشارع علي أخذت منه الكثير,واستفدت منه الكثير, فالشعب هو الفنان الأصيل,ليت لنا بعض فنه الذي يصدد عن طبيعة صادقة أصيلة,لايمكن للصنعة مهما بلغت من القدرة والإعجاز أن تبلغ شأوها.
غني ولحن السيد درويش أغنيات كثيرة عاطفية ووصفية ومسرحية وموشحات بلغ عددها مئات, وكانت كلها جديدة غير تقليدية وليست متشابهة مما يدل علي عبقريته.
أثناء قيام ثورة عام 1919 شعر أن الفن لايقوم بدوره الإيجابي في الثورة وواجبه الحقيقي في خدمة الشعب والوطن.فبدأ يفكر في وضع ألحان وأناشيد تواكب الظروف الصعبة التي تمر بها مصر,وسمع أحد أصدقائه كلامه عن الموسيقي والوطنية فقال
له:وما شأنك أنت والوطنية؟وما شأن الغناء بالسياسة والوطنية؟
صمت فناننا برهة ثم قال لصديقه:
إن للغناء شأنا كبيرا بما تعانيه البلاد,وما المغني إلا صوت الشعب لو أنه فهم رسالته الحقيقية..لقد كنا عن واجبنا غافلين,وكنا عن أولي مهمات رسالتنا معرضين…ولكني لن أقع في هذا الخطأ بعد الآن وستري أغاني وألحاني منذ اليوم من لون آخر غير الذي تعودت أن تري,سأعبر عن شعور الشعب وأحاسيسه فما الفن القدسي العلوي بالذي يعبر عن نزوات الأفراد ومغامراتهم وما خلق للترفيه عن المنحلين وسمار الليالي…بل أنه المعبر عن الجماهير والملايين.
شحذ السيد درويش عبقريته الفنية, وعبر عن نبض الشارع وحب المصري لوطنه واستعداده الموت في سبيله وجعل من الموسيقي والغناء الوطني سلاحا يحارب به العدو سلاحا أشد وأقوي من القنابل والمدافع وعلا صوت الشعب كالهدير يغني:أحسن جيوش في الأمم جيوشنا إحنا الجنود زي الأسود,أنا المصري كريم العنصرين…بنيت المجد بين الأهرمين,قوم يامصري مصر دايما بتناديك…خد بنصري نصري ده دين عليك.
فطن فنان الشعب بحسه الوطني إلي خدعه الاستعمار في التفرقة بين وحدة الشعب المصري, فقدم أغنية السياسي التي
يدعو فيها بالتمسك بالوحدة الوطنية…تقول الأغنية:
أوع يمينك أوع شمالك أوع الأزمة توقف حالك
أوع وشك أو ضهرك أوع فوقك أوع تحتك
أوع لجيبك م الحرامية أوع لروحك م الحنوتية
أوع الكوكايين يلحس مخك أوع م البوكر لايسطلك
يمينك شمالك أوع
وردة وردة يا أفندي حودة حودة ياللا وسع بلا زحمة
اسمع اسمع مني كلمة إن كنت صحيح بدك تخدم
ياشيخ اتعلم
إللي أوطانهم تجمعهم عمر الأديان ماتفرقهم
يمينك شمالك أوع
لم يكتف فنان الشعب السيد درويش بالموسيقي والأناشيد الحماسية وقيادة المتظاهرين وإنما استاجر عربة حنطور وقادها بنفسه وخرج إلي الشارع واختلط بالمتظاهرين يغني ويعبر عن كراهيته لظلم الاستعمار البريطاني وحبه لوطنه وأخذ يغني.
النشيد الخالد:بلادي بلادي,ولهذا النشيد حكاية طريفة,فقد استمع السيد درويش إلي خطية الزعيم مصطفي كامل التي بدأها بقوله:بلادي…بلادي…لك حبي وفؤادي…بلادي بلادي…لك لبي وجناني…لك روحي ونفسي…أنت أنت الحياة…ولا حياة إلا بك يامصر.
اختار السيد درويش مطلع خطبة مصطفي كامل,وجلس مع الأديب مجد الدين حفني ناصف,والشاعر محمد يونس القاضي وصاغ ثلاثتهم النشيد بعد مساجلات ومناقشات كثيرة ولحن فناننا النشيد وأصبحت كلماته بعد صياغته:
بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد أنت غايتي والمراد
وعلي كل العباد كم لنيلك من أيادي
***
مصر يا أرض النعيم سدت بالمجد القديم
مقصدي دفع الغريم علي الله اعتمادي
***
إلي آخر النشيد, وبالإضافة إلي التلحين شارك فناننا أيضا في وضع بعض الكلمات.وبعد معاهدة كامب ديفيد,بين مصر وإسرائيل 1979 أضاف الأديب ثروت أباظة نهاية للنشيد تقول:
نحن حرب وسلام وفداك يابلادي
وأصدر الرئيس محمد أنور السادات أمرا بأن يكون هذا النشيد هو النشيد القومي,وسلام لجمهورية مصر العربية وكلف الموسيقار محمد عبد الوهاب بالإشراف علي هذا العمل,وطالب بأن يعزف بصورته الجديدة عند عودته إلي أرض الوطن بعد اتفاقية كامب ديفيد,ومن يومها وهذا اللحن هو السلام الجمهوري الرسمي لمصر.
عاش فنان الشعب السيد درويش 31 عاما فقط بين السنوات1892-1923 قدم فيها مئات الأعمال الفنية غنائية ومسرحية وفي المجال قدم خمسين عملا وطنيا مازلنا نتغني بها تعبر عن حبنا العظيم لبلادنا الجميلة مصر واستعدادنا للتضحية من أجلها, وكان نجما حقيقيا لثورة1919,ورحل فجأة في الإسكندرية وكان قد ذهب إليها لاستقبال الزعيم سعد زغلول,العجيب أنه لم يشع جنازته إلا نفر قليل فقد مات يوم عيد!.