قامت الكنيسة برحلة إلي الصعيد، وجميعهم صعدوا إلى الحافلة وهم يتحادثون ويتوادون وهم في طريقهم إلي العودة تفاجئوا انهم نسوا طفلًا في أحد الأديرة، فإذا بزلزال يقلب قلب الأم رأسًا علي عقب حين أدركت غياب فلذة كبدها، فإعتذرت عن باقي حديثها وزاغت عينيها تقلبهما في وجوه أطفال الحافلة وتسألهم عنه وهي تلهث بشدة، وفي ذلك الحين كان “ملاك” قابعًا مكانه، منتظر عودة أمه من قضاء حاجتها كما قالت. ولكن ما هذا؟…. إنها فراشة!!، فراح يغدو ورائها محلقاً ناسياً كل شئ حوله إلي أن اصطدم بشبح عملاق أسود اللون!! فرفع نظره فوجد رجلاً فارع الطول عريض المنكبين ذو لحية سوداء وعينين حادتين تكاد لا تظهر بين قسمات وجهه الحادة، فدق قلبه بخوف وحدث ما يخشاه، أن سأله هذا الراهب ماذا اتي بك إلى الطافوس؟ بغض النظر عن انه لا يعلم ماهو الطافوس ولكن بالتأكيد هو لا يكره هذا السؤال تحديدًا بل أنه يكره أن يكون في وضع المتكلم وذلك لأن كل مرة يتكلم فيها أمام شخص غريب يتلعثم فيهزأ به هذا ويصفه بالمنغولي ويمضي، فلم يدري ماذا يفعل الصبي سوي البكاء.
وكان البكاء يختلط بتنهدات “آه يا ولدي يقطعني” و “حقك عليا” وبدأت تتمتم بكلمات خافتة وكأنها تهذي وسط كثير من صديقاتها يحاولوا ابطال تأثير خيالاتها المتدفقة، ها أخذه أحد؟ هل يأذيه احد بوصفه بالمنغولي مجددًا؟ أم عادته حالتة التشنج حين يضيق صدره قبل قلبه. وسط كل هذا الضجيج نظرت بجانبها فوجدت زوجها جالس في حالة اتزان كامل وها هو كعادته يطمئنها بإبتسامته المعهودة.
وكأن الزمن توقف هنا، هي تحدق به بنظرات استجداء واستغاثة وهو ما إلا يفرج شفتيه في صفاء وبهجة، ولكن، هناك شئ غريب يحدث!! هذا السلام النابع منه لا يتفق مع الصراخ حولها، ماذا يحدث؟!! إدارت وجهها وإذ بشئ اسود صلب مُشهر امام وجهها ينذرها بأن تنكر.
أنكر ماذا؟!… أنكري مسيحك. وببطء شديد بدأت تفهم أن بعض الملثمين هاجموا حافلتهم وهم يأمروهم بإنكار المسيح، وعادت فنظرت إلى زوجها فوجدته بنفس حاله ولكن لا احد من الملثمين يراه ولا هو يكترث بهم. وأخيرًا نطق بعد مدة صمت امتدت ست سنوات قائلاً وكأن في كلامه كل ما كانت تحتاجه من تعزيات، وكأن الزمن توقف حين قال “انتظرتك كثيرًا، هيا تعالي لنتمتع بجمال مسيحنا سوياً” وحين خرجت آخر كلمة من فمه شرع أحد الملثمين في اطلاق الرصاص عليها وانطلقت روحها بسلام ولكن كان يشغل قلبها شئ واحد، “ملاك”.
ظل ملاك قابعًا في الدير مع الرهبان لعدة ساعات فرحين جميعًا هو مستأنس بهم وبقبولهم له وللحوار المتأني بينهم وكأن في قلبه رغبة أن يتكلم مع أمه ويقول “اتركيني هنا يا أمي، ولا تخافي، فهنا الكل يحبني ويقبلني”، وهم فرحين به وأحسوا بتعزية عظيمة وكأنه رسالة من الله أنه إن لم يصيروا مثله لن يدخلوا ملكوت السموات، ولكن غيم الحزن عليهم عندما عرفوا بالحادث. وتجلت المحبة الإلهية في أن دُفنت أم الملاك في ذات الدير الذي حفظ إبنها من الموت ومن البشر وشرهم، وأُطلق عليه “إبن الشهداء” أو “ملاك الشهداء”.
فالأم قُتلت في هذا الحادث، والأب سبقها بالإكليل منذ ست سنوات في حادث كنيسة القديسين.