ترجع وقائع وأحداث سيامة المتنيح القمص مكاري عبدالله إلى مطلع السبعينات من العام الماضي حينما كان يشغل الأستاذ الدكتور أديب عبدالله وظيفة مدرس مساعد للرياضيات بكلية العلوم جامعة القاهرة، وكان متخصص في مادة “المتغيرات المركبة” Several Complex Variable” ويعتبر من القلائل المتخصصين في هذا العلم إذ إنه في غاية الصعوبة والتعقيد، وكان من محبي القديس العظيم البابا كيرلس السادس وكان دائم التردد عليه لنوال بركاته إذ إن الله قد تمجد معه ومع عائلته عدة مرات من خلال هذا القديس العظيم، ولذا كان الدكتور أديب يثق تمام الثقة بأن البابا كيرلس قديس من قديسي كنيستنا في هذا الجيل، وفي إحدى المرات قال له البابا كيرلس “أنا عايز أعملك قسيس”.
في بادئ الأمر لم يعِر الدكتور أديب اهتماماً معتقداً أنها مداعبة من البابا، ولكن قداسة البابا أعاد عليه نفس المطلب قائلاً له: “المسيح دٓعيك” وإيذاء هذه الدعوة ولاسيما أنها من قديس عظيم كالبابا كيرلس فلم يكن له بد سوى الموافقة التي أذهلت وأدهشت الجميع من رجال الإكليروس والكهنة!!! وصار نقاشهم “كيف وأنت أستاذ جامعي تترك وظيفتك المرموقة لتكون كاهن؟! وكم ستتقاضى من أجر؟ وكيف ستحافظ على مستوى أسرتك المادي؟” إلا أن كل هذه التساؤلات لم يكن لها رد من الدكتور أديب حين ذاك سوى أن الدعوة من الله وعلى لسان رجل من رجال الله الموثوق فيهم,
وفعلا تقدم الدكتور أديب باستقالته للسيد الأستاذ الدكتور رئيس قسم الرياضيات، ولاختلاف الآراء بينهما كان الدكتور أديب متوقع أن تنال استقالته الرضى والقبول وتكون الفرصة سانحة لرئيس القسم للتخلص منه، إلا أن رئيس القسم خالف كل التوقعات ورفض قبول الاستقالة وقال للدكتور أديب: “أنا معنديش بديل لك…. والأمانة العلمية تفرض عليّٓ عدم قبول الاستقالة”، وعند علم قداسة البابا بأمر رئيس القسم قال للدكتور أديب “قول أنا مش مسافر بره.!!… أنا هاكون كاهن”، ولكن رئيس القسم أصر على رفضه لقبول الاستقالة وعرض الأمر على كلاً من السيدين الأستاذين الدكتور عميد الكلية, والدكتور رئيس الجامعة واللذان اقتراحا بأنه لا مانع من حضوره للجامعة مرتديا زي الكهنوت، ولكن الدكتور أديب أبلغهم باستحالة قبول الكنيسة لهذا الاقتراح وفي ظل هذه المناقشات وفي إحدى زيارات الدكتور أديب لقداسة البابا سأله قداسته عما تم بموضوع الاستقالة وعند علم قداسته باقتراح كلاً من عميد الكلية ورئيس الجامعة كان رأي قداسته مخالفاً لكل التوقعات وإذ به يقول للدكتور أديب “اقبل يا ابني كله لمجد اسم الله”، وفي هذه الآونة كان الدكتور أديب قد بدأ في الحفظ والاستعداد للسيامة، وكل ما كان البابا كيرلس يسأله “خلاص خلصت حفظ؟” تكون الإجابه “لِسَّه يا سيدنا” وتكرر هذا الموقف لعدة مرات آخرهم كان في وجود المتنيح الأنبا اغريغوريوس (أسقف البحث العلمي حين ذاك) والذي كان تعليقه لقداسة البابا “ده أستاذ جامعة ياسيدنا … ودول بيحبوا الحاجة على أكمل وجه” وهنا حسم البابا الأمر بتحديد موعد الرسامة يوم الجمعة الموافق ١٠ يوليو .
وقبيل الرسامة دار حوار ونقاش بين المتنيحين الأبوين الفاضلين القمص جرجس إبراهيم والقمص مرقس غالي وقد اقترحا عدة أسماء لزميلهم الكاهن الجديد المُختار وقدمها للبابا كيرلس وفي اليوم المحدد للرسامة تم انتداب المتنيح الأنبا مكسيموس مطران بنها لسيامة كلاً من الدكتور صيدلي عدلي حبيب باسم القس باخوم لكنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا والدكتور أديب باسم القس مكاري (ولم يكن هذا الاسم ضمن الأسماء المقترحة) لكنيسة رئيس الملائكة الجليل ميخائيل بطوسون، وبقداس السيامة كانت مصادفة عجيبة وهي أن إنجيل القداس يتحدث عن الراعي الصالح والأمين وقد ألقى العظة المتنيح القمص جرجس إبراهيم والذي كان أسلوبة في غاية الروعة والجمال وللذي لم يعرف القمص جرجس فهو واعظ فصيح وكانت الكلمة عن إنجيل القداس والذي يوافق المناسبة وانظروا من يختارهم قداسة البابا للرعاية، وبالقداس قد صلى القس باخوم الآواشي وصلى القس مكاري المجمع باللغة القبطية، وعقب السيامة صعد الآباء الكهنة الجدد والقدامى لنوال بركات البابا وما إن رأى البابا القس مكاري إلا وقال له “وبتقول لي محفظتش…. ده مجمع جبلي”، إذ إن قداسة البابا كيرلس كان يتابع صلوات القداس الإلهي من خلال سماعة بحجرته الخاصة، وعندما وقف الآباء الكهنة القدامى والجدد وبعض الأراخنة لالتقاط الصور التذكارية مع قداسه البابا فكان القس مكاري يقف بعيداً عن البابا ليفسح المكان للأسقف وللكهنة القدامى وإذ بالبابا ينادي عليه قائلاً “تعالى أقف جنبي هنا يا حبيب أبوك… عارف أنا سميتك مكاري ليه؟ لأنك هتكون طوباوي”، وكان البابا كيرلس يترك لكل كاهن حرية أن يختار الدير الذي يقضي به الأربعين يوماً، وقد اختار أبونا مكاري دير الشهيد العظيم مارمينا العجائبي بمريوط ونظرًا لأن الطريق للدير لم يكن ممهدا كما هو الحال الآن فقد كان الجرار يذهب لمحطة القطار مرتين أسبوعين لاستقبال الزائرين، فلذا وبحسب تعليمات البابا ظل أبونا مكاري مقيم لعدة أيام ببيت المطارنة المجاور للمقر البابوي بمنطقة كلوت بك لحين الإبلاغ والترتيب مع الدير.
وبعد ما وصل أبونا مكاري للدير إلا وتابعه بعض من الصحفيين لإجراء حوارات مع أول أستاذ جامعي يدخل الحرم الجامعي ويحاضر مرتدياً زي الكهنوت وقد أفردت جريدة الأهرام الغراء نصف صفحة في عددها الصادر في ٢٤ اغسطس ١٩٧٠لهذا الحدث، خلال فترة قضاء أبينا مكاري لمدة الأربعين يوميا بالدير أُعلن عن فوزه بجائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى تقديرا لأبحاثه العلمية وكان مقرر استلامهما خلال فترة الأربعين يوما فسمح له البابا بالنزول لاستلامها والعودة للدير مرة أخرى، إلا أن الموعد أُرجئ لما بعد لمرض الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وحينما تولى الرئيس السادات الحُكم عقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر أسند تسليم الجوائز والأوسمة نيابة عنه للسيد الأستاذ الدكتور وزير البحث العلمي وقد استحوذ هذا الحدث الفريد على العديد من وسائل الإعلام كالصحف والمجلات والتليفزيون وشاشات السينما إذ إنه في هذه الآونة كان يتم عرض العديد من الأخبار الهامة والتي تستحوذ على الرأي العام بجميع دور العرض قبل بدء جميع الحفلات، واعتبر أبونا مكاري حصوله على الوسام خبر عالمي لا يشغل به البابا واكتفى بإبلاغ قداسته فقط، ولكن في ظهر أحد الأيام إذ بالأستاذ خاليليو المصور الخاص بقداسة البابا يتصل بأبينا مكاري تليفونيا ليبلغه بأن البابا في انتظاره ومعه الوسام، وكام كانت فرحة البابا بالوسام وبأبينا وقال لأبينا مكاري “تعالى يا حبيب ابوك… وري ابوك الجائزة”.
+ وفي نوفمبر ١٩٧٠ حينما توفي بطريرك جاثليق الحبشة أناب البابا وفداً لتقديم واجب العزاء نيابة عن قداسته وقد ضم الوفد كلاً من المتنيح الأنبا إسطفانوس مطران أم درمان وعطبرة والمتنيح الأنبا أغريغوريوس والقس مكاري عبدالله.
+ وفي بداية عام ١٩٧١ شكل البابا كيرلس وفدا لحضور اجتماع مجلس الكنائس العالمي المنعقد بفندق وندور بالقاهرة بخصوص التربية الكنيسة وقد ضم الوفد كلاً المتنيح الأنبا اثناسيوس مطران بني سويف ومثلث الرحمات المتنيح الأنبا شنوده والذي كان أسقفاً للتعليم حين ذاك والمتنيح القمص انطونيس أمين راعي كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة والقس مكاري عبدالله والمتنيح الأستاذ كمال حبيب ( والذي أصبح فيما بعد الأنبا بيمن أسقف ملوي).
+ وفي سبتمبر عام ١٩٧٣ حصل أبونا مكاري على درجة الأستاذية، وفي عام ١٩٧٦ شغل منصب رئيس قسم الرياضيات لأكثر من دورة، وفي سبتمبر ١٩٨٨ عُين أستاذ متفرغ، وشغل منصب عضوا بمجلس كلية العلوم لأكثر من مرة، ومنذ عام ١٩٨٨عُين عضواً بلجنة الرياضيات بالمجلس الأعلى للجامعات، وكذا في عام ١٩٩٨ عند إنشاء أكاديمية السادات أُختير عضواً باللجنة العلمية الدائمة لأكاديمية السادات، وله العديد من الأبحاث المنشورة بأكبر المجلات العالمية ومعرف على مستوى رواد الرياضيات العالمين باسم “بروفيسور فضل الله”، وبطبيعة عمله بالجامعة فقد سافر للعديد من البلدان ولفترات طويلة تارة كدارس وتارة كمحاضر أو ممثلا لمصر في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية فلذا قد منحه البابا شنوده تصريح دائم بالصلاة وإقامة القداسات للمسيحيين المقيمين بأي بلد يحل به لأنه في هذه الآونة لم تكن كنائسنا منتشرة، فقد أقام أبونا مكاري بفرنسا لأكثر من العام وكان يصلي القداسات وأقام أسبوع الآلام وكانت هذه نواة الكنيسة القبطية بباريس وكان يسافر منها بصفة دورية للعديد من البلدان المجاورة لإقامة القداس الإلهي وقد تردد عليها فيما بعد لعدة مرات، وكذا سافر لألمانيا وكان دائم التردد عليها إذ إنه حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة جوتنجن بألمانيا الغربية عام ١٩٦٢ وقد صلى بأماكن عديدة بها، وكذا سافر لحضور العديد من المؤتمرات والندوات بكل من الدانمرك وبولندا وسويسرا وإيطاليا واليونان والمغرب والعراق والسنغال، وكذا قد سافر للسودان لمرات عديدة لإلقاء المحاضرات بفرع جامعة القاهرة بالخرطوم، وقد شغل منصب مشرف على امتحانات جامعة القاهرة بالخرطوم وكان المتنيح الأنبا دانيال مطران الخرطوم مهتماً جداً بدعوته للصلاة بالعديد من كنائس ابروشيته.
وفي الأحد الموافق ٥ مارس ٢٠١٣ تمت ترقية أبونا مكاري لرتبة القمصية بيد صاحب القداسة والغبطة البابا تاوضروس ليكون أول كاهن يرقى لدرجة الإيغومانيسية في عهد البابا تاوضروس.
وفي يوم السبت الموافق ١٦ مارس ٢٠١٣ تم تكريم أبونا مكاري بقاعة ابن سينا بكلية العلوم بجامعة القاهرة كأحد رواد الرياضيات المصريين لإنجازاته وأبحاثه العلمية وقد نُشرت أصداء هذا الاحتفال بالصحافة المصرية والدولية.