«فإذا حملكم العقل علي أن تقسموا الزمن إلي فصول.. فاجعلوا كل فصل يحيط بالفصول الأخري جميعاً.. ودعوا الحاضر يعانق الماضي بالذكري.. والغد بالحنين».. نصيحة للعم «جبران خليل جبران».. تعالوا نتبعها وندع حاضرنا يعانق الماضي بالذكري.. والماضي الذي قررنا أن نعانقه اليوم هو تلك الحقبة الغريبة والعجيبة والفوضوية والمؤثرة تماماً.. حقبة السبعينات العبثية التي استلمت الراية من حقبة الستينات وهي مدججة بالكثير من الفلسفات الجديدة التي كانت قد أرست دعائمها بالفعل.. يأتي علي رأس تلك الفلسفات فلسفة الهيبيز وزعيمها «تشارلز ميلر مانسون» الذي اعتبره البعض ملهم ذلك العصر، بينما اعتبره البعض الآخر مجرد أفاق وحشاش ومجرم بلا ضمير.. ولكن المؤكد أنه قد جذب إليه معظم شباب أمريكا وأوروبا وقتها.. وتنص فلسفة الهيبيز علي ذلك النداء الإنساني.. «أوقفوا الحروب ومارسوا الحب.. اتركوا المدن وعيشوا في الخلاء.. اتركوا الآلة وتعلموا الحرف اليدوية.. فالحب أقوي وأفعل من القنابل.. والكلمة أكثر خلوداً من المدفع.. إنه نداء لتحكيم العقل وممارسة العواطف.. والشعور بأهمية الإنسان بعيداً عن كل ما هو مزيف.. بعيداً عن المدينة والآلة.. والمدفع»..
هكذا يبدو نداء «مانسون» زعيم الهيبيز إنسانياً تماماً.. إلا أن المشكلة كانت في اقترانه بسلسلة من جرائم القتل التي هزت الدنيا والتي كانت آخرها المجزرة التي حدثت في فيلا الممثلة المثيرة «شارون تيت» والتي كانت بسبب تعاطي بعض أنواع المخدرات الخطيرة وعقاقير الهلوسة التي تؤدي إلي هياج شديد قد يدفع المرء تحت تأثيرها إلي ارتكاب أفظع الجرائم.. وهكذا بدأت السبعينيات بمحاكمة «مانسون» زعيم أهم طائفة جديدة تظهر علي سطح الكوكب في ذلك الوقت.. طائفة الهيبيز التي يعتنق مبادئها الكثيرون حتي يومنا هذا.. ولكن الحدث الأهم الذي بدأت به تلك الحقبة كان هو نجاح طاقم الرحلة «أبوللو11» في الوصول إلي سطح القمر في 1969 ليصبح الأمريكي «نيل أرمسترونج» أول إنسان من كوكب الأرض يطأ سطح القمر بأقدامه ويغرس عليه علم أمريكا.. وهو ما يؤكد الكثيرون حتي الآن أنه لم يكن أكثر من مجرد خدعة سينمائية تم تنفيذها بمنتهي المهارة في استوديوهات هوليود لتفوز أمريكا بمقتضاها في السباق الفضائي المحموم بينها وبين روسيا.. إذن.. هكذا بدأت السبعينيات.. بجدل حول الوصول إلي القمر من عدمه.. وبأفكار جديدة تنادي بالعودة إلي البدائية مرة أخري بعد تحكم الآلة في حياة الإنسان بشكل كامل.. لهذا.. كان طبيعياً جداً أن ترمي تلك الأحداث بظلالها علي الحقبة بكاملها لتصبح هي الحقبة الزمنية الأكثر فوضوية علي الإطلاق وبدون منازع!
كان هذا عن استقبال العالم للسبعينات.. فضاء وقمر وحروب باردة وفلسفات جديدة ومتمردة.. أما في مصر الجميلة.. فقد كانت الأمور تنحو منحي آخر تماماً.. فبينما كانت أمريكا تسعي إلي تحرير الفضاء الخارجي ممثلاً في القمر ونجاحها في ذلك بالفعل.. كنا نحن في مصر نسعي إلي تحرير أرضنا الداخلية ممثلة في سيناء ولم نكن قد نجحنا بعد في ذلك.. وعلي الرغم من مرارة شعور احتلال جزء من الأرض إلا أن أجمل ما كان في تلك المرارة هو اجتماع الناس جميعاً حول هدف قومي واحد وأوحد ووحيد.. تحرير سيناء.. وهو الهدف القومي الذي تحول مؤخراً إلي الوقوف خلف منتخبنا القومي بدلاً من الوقوف خلف جيشنا الوطني.. المهم.. مرت السنوات الثلاث الأولي من السبعينيات.. ليفاجئ الرئيس السادات إسرائيل والعالم أجمع بقرار الحرب الشجاع.. ويدهس الجيش المصري نظيره الإسرائيلي شر دهسة ويهزمه شر هزيمة.. ولكن.. ما الذي حدث بعد ذلك؟! هذا هو السؤال وتلك هي المسألة..
بعد هذا النصر العظيم كان المصريون علي موعد مع هزائم كثيرة علي جميع المستويات.. حيث بدأ عصر الانفتاح الذي أصبح اقتصاد البلد قائماً فيه علي مصانع البسكوت والشيبسي واللبان بدلاً من الصناعات الثقيلة والمهمة والمفيدة بجد.. سمح ذلك الانفتاح لكل من يمتلك أموالاً أياً كان مصدرها بالصعود الطبقي المباشر.. هذا الصعود القائم علي معايير الثروة فقط أفسد التركيبة الاجتماعية تماماً لينتهي مع نهاية السبعينيات ما كان يمكننا أن نطلق عليها طبقة متوسطة.. ويصبح هناك طبقتان فقط في مصر..الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة.. هذا المعيار المعتمد علي الثروة والمستبعد منه العقل والعلم ساهم في خربأة التعليم أكثر وأكثر.. وللإغراق في العبثية تم اتهام مسرحية مدرسة المشاغبين وقتها بأنها المسئولة عن ذلك “البوظان ” وتلك الخربأة.. وفي هذا الصدد اسمحولي أن أؤكد أنه إذا استطاعت مسرحية كوميدية إفساد التعليم في دولة مثل مصر.. فالعيب ليس عيب المسرحية.. ولكنه عيب الدولة نفسها.!
إذن.. انفتاح اقتصادي وبسكوت ولبان مع انحسار للطبقة الوسطي وتزايد رهيب في نسبة الفقر والفقراء مع انحدار وتدهور في التعليم.. تلك الأسباب مجتمعة جعلت المناخ مناسباً تماماً لظهور الجماعات المتطرفة والمتزمتة والمتشددة والتي هرول إليها الكثير من الشباب للبحث عن دور في وطن اكتشف فجأة أنه لا يوجد له أي دور فيه.. الآن.. التركيبة الاجتماعية باتت مؤهلة تماماً للرجوع إلي الخلف.. بدلاً من التقدم للأمام.. وهذا ما قد كان.
إنها السبعينات.. الحقبة الزمنية الأهم بين الحقب الزمنية التي مرت علي مصر طوال تاريخها.. والتي تعد بمثابة جسر منطقي بين ما سبقها من حقبة الرئيس عبدالناصر وما أعقبها من حقبة الرئيس مبارك.. الحقبة التي لانزال نرتع بين فيمتوثانياتها حتي تلك اللحظة!
إنها السبعينات.. حقبة الفوضوية الخلاقة والهيبيز
السبعينات.. حقبة زمنية عاصفة تماماً.. استغل العالم تلك العاصفة في توليد الطاقة الدافعة للأمام منها.. بينما نحن استسلمنا لها.. وتركناها لتعصف بنا.. والنتيجة الأيام اللي حضراتكم عايشينها اليومين دول!