مر ثلاثون عاماً على رحيل واحد من عمالقة الفن المبدعين وهو صاحب فكر مؤثر في مجالات عديدة “الصحافة .. التأليف .. والنقد الفني والآثار” كان لفكره الواسع وثقافته الشاملة ما جعله محور إهتمام أنظار جيله من المبدعين الآخرين .. ونموذجاً خلاقاً لتلاميذه ومحبي الفن عامة – ذلك الفنان الأثري الراحل كمال الملاخ (1918 – 1987) العملاق متعدد المواهب .. كان فناناً معمارياً، كما برع في فن الصحافة بأسلوبه المميز .. بجانب ذلك أبدع في النقد الفني والسينمائي، فهو مؤسس الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، ومؤسس مهرجان القاهرة والأسكندرية السينمائي .. وظهرت موهبته في التأليف للفن والآثار وعن رجال الفكر، وأيضاً كتب السيناريو للسينما والتليفزيون .. كان الفن عنده والثقافة والعمارة والآثار والسياسة مراكب يسبح بها في الحياة.
ومن حسن حظي تعرفت على هذه الشخصية الثرية فنياً من خلال معرض للفن التشكيلي بعنوان “من وحي الأديان” عام 1966 والذي إفتتحه الراحل أنور السادات رئيس مجلس الأمة آنذاك .. إذ فوجئت بنشره صورة للوحتي “الحب الإلهي” ضمن نافذة كمال الملاخ بدون عنوان بجريدة الأهرام مع خبر إفتتاح المعرض الجماعي الذي إشترك فيه 80 فناناً وفنانة بلوحاتهم وتماثيلهم .. وكان يضم نخبة من رواد الفن منهم الفنان راغب عياد ويوسف كامل وسيف وانلي وصبري راغب وغيرهم من الفنانين المعروفين في ذلك الوقت.
هكذا بدأت صداقتي مع العملاق كمال الملاخ حيث الحوارات الفنية بيني وبينه .. وطلب مني أن أتواجد برسومي في صفحته الفنية في المناسبات الوطنية والدينية والإجتماعية .. مما أتاح لفني الإنتشار بين متذوقي ومحبي الفن في مصر مع غيري من شباب الفنانين في ذلك الزمان “زمن الفن الجميل” في الستينيات من القرن العشرين.
ونحن اليوم في جلال الذكرى لرحيل فنان وعالم الآثار يحتفل المهتمون بالإكتشافات الأثرية الجديدة هذا العام وبمرور 63 عاماً على إكتشاف مراكب الشمس التي إكتشفها كمال الملاخ حيث حقق كشفاً أثرياً مهماً كان له دوي في جميع أنحاء العالم في مايو 1954 عندما عثر على مركبين في حفرة بجوار هرم الملك خوفو .. وقد اُنشيء متحفاً لمراكب الشمس في نفس المكان.
كما تذكرت إدارة مهرجان الأسكندرية السينمائي في أكتوبر الماضي هذا العام إسم مؤسس هذا المهرجان (كمال الملاخ) الذي أٌطلق إسمه على جائزة أفضل فيلم روائي .. وأيضاً سيحتفى به مع إنطلاق الدورة ال 39 لمهرجان القاهرة السينمائي الذي سيبدأ يوم 21 من الشهر الحالي .. والجدير بالذكر أنه أول من رأس أول مهرجان دولي سينمائي في مصر عام 1975 ولمدة ثمانية سنوات متصلة.
والراحل كمال الملاخ إستطاع أن يحول صفحته في جريدة الأهرام عام 1957 “بدون عنوان” إلى نافذة ثقافية مميزة يطل منها كل صباح بكل الفنون على قرائه .. فملأ الدنيا بالحب والتفاؤل والتذوق ، وعرف الناس من خلال كتاباته بعضاً من حياة المفكرين ونجوم السينما وأخبار المعارض الفنية وأصحابها سواء المحلية أو الدولية .. وكل ما هو جديد في العالم من حولنا، فأشاع في نفوس كل الأعمار البهجة بالمعلومة مع التذوق الفني من خلال بعض السطور الموجزة والقيمة .. فصنع بينه وبين الجماهير ذلك التواصل العجيب منذ الفراعنة وحتى القرن العشرين.
كان الملاخ أحد النقاد الشرفاء كرس قلمه منذ بداية حياته الصحفية لأنبل هدف وجعله في خدمة الفن والمعرفة .. كان الإعتدال مذهبه، فله أسلوب مميز في الكتابة .. وكانت لهجته الفنية تجعل القاريء يتذوق ويصدق كل ما يقرأ .. وكان موضع ثقة لغزارة علمه وعمق ثقافته.
تخرج كمال الملاخ في كلية الفنون الجميلة قسم العمارة بتفوق عام 1943، ثم درس في الآداب ومعهد الدراسات المصرية .. إلا أنه كان يشعر في أعماقه بإنتماء أكثر للآثار التي إستحوذت على كل مشاعره منذ ميلاده عام 1918 بأسيوط.
ولهذا نجد كمال الملاخ في كثير من لجان الثقافة والآثار والفن، مما جعله أقدر وأكفأ من ألف كتباً عن الفن والفنانين المصريين والأجانب .. ويعتبر كتابه عن عميد الأدب العربي طه حسين (1889 – 1973) – كأحد أعمدة التنوير في القرن العشرين— من أشهر مؤلفاته والذي تحول إلى فيلم سينمائي .. كما ألف أكثر من 50 كتاباً منها “حياة بيكاسو” وكتباً أخرى عن الآثار والأدب والفكر بدأت بكتاب “عروس النيل” وآخرها كتاب “حواء على النيل” وترجمت بعض كتبه إلى معظم لغات العالم.
كذلك أحاديثه الإذاعية والتليفزيونية التي كان يقدم فيه فناناً أو معرضاً أو خديثاً عن جذورنا الفنية فقد كان له حضور شديد الجاذبية والألفة .. فحديثه بالغ التأثير والإقناع وإبتسامته الدائمة باعثة على الإرتياح والثقة والحب.
حصل الملاخ على جوائز كثيرة محلية ودولية منها وسام الجمهورية من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد إكتشافه مراكب الشمس .. وجائزة الدولة التشجيعية ووسام الفنون والآداب من الطبقة الأولى، كما حصل على شهادة تقدير مهداه من الرئيس الراحل أنور السادات لجهوده في مجال الإبداع الفني في عيد الفن عام ١٩٧٨ .. والعديد من الميداليات وشهادات التقدير في مجالات فنية وأثرية دولية مما جعل أمريكا تطلق إسمه على نجم في السماء عام ١٩٨٣ تكريماً له بإعتباره شخصية عالمية.
كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام ١٩٨٣ بأعلى نسبة أصوات يفوز بها مرشح في جميع فروع جوائز الدولة .. والتي سلمها له الرئيس حسني مبارك .. وفي عام ١٩٨٦ حصل على جائزة عالمية من فرنسا ووسام الإستحقاق من الطبقة الأولى.
تعرض الملاخ في أواخر أيام حياته لأكبر الصدمات العاطفية .. عندما فجع في موت آخر أشقائه الدكتور رجائي الملاخ، وأيضاً النكران المتكرر لكثير من إنجازاته .. ومع ذلك لم يفقد إيمانه ولا إتزانه، ولم تفارقه إبتسامة الرضا مؤمناً أن الحياة يوجد بها الخير والشر.. فالفن في رأيه الأصالة والحب والعطاء والتفاني.
تحية مع إضاءة شمعة في ذكرى هذا الفنان العملاق—كمال الملاخ—أحد أبناء مصر الكبار الذين أثروا الحركة الفنية والثقافية المصرية .. فله بصماته الواضحة التي أثرت على أجيال ممن يعملون بالفن والصحافة والمعرفة.
وإنطفأت المنارة التي ظلت تشع بضوئها دون كلل .. وترك بصمة في واقعنا الفني والأخلاقي سيصعب تكرارها عدة سنوات .. وفي يوم 29 أكتوبر 1987 فارق الملاخ الحياة بعد صراع مع مرض نكران الجميل لمدة أكثر من عامين .. تاركاً هذا العالم المليء بالأحقاد والحزن والصراعات .. ورحل إلى عالم أرحب وأجمل .. عالم الحب .. عالم أبدي نوراني.